بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
قصة متوسطة الطول أرجو ألا تضيقوا ذرعا بقراءتها للآخر فهي جد ممتعة و ذات معاني كبيرة تعبر عن حال غالبية الناس من جهة و من جهة ثانية أكاد أقول أنها تعبر عن حال قلة من الناس
نهر الجنون
لتوفيق الحكيم
(بهو في قصر ملك من ملوك العصور الغابرة. الملك و وزيره منفردان)
الملك – ما تقص علىَّ مريع!
الوزير – قضاء وقع يا مولاي.
الملك – (في دهش و ذهول) الملكة أيضاً؟
الوزير – (مطرقاً) واحزناه!
الملك – هي أيضاً شربت من ماء النهر؟
الوزير – كما شرب أهل المملكة أجمعين.
الملك – أين رأيت الملكة؟
الوزير – في حديقة القصر.
الملك – ما كان ينقص الخطب إلا هذا!
الوزير – لقد حذرها مولاي أن تقرب ماء النهر و أوصاها أن تشرب من نبيذ الكروم. لكنه القدر!
الملك – قل لي كيف علمت أنها شربت من ماء النهر؟
الوزير – سيماؤها ، حركاتها.
الملك – أحادثتك؟
الوزير – لم أكد أقبل عليها حتى ازورت عني في شبه روع.
كذلك فعلت و صائفها و جواريها و طفقن يتهامسن و ينظرن إلىَّ نظرات الممروريين.
الملك – (كالمخاطب نفسه) كل هذا بدا لعيني في تلك الرؤيا!
الوزير – رحمة بنا أيتها السماء!
الملك – نعم كل هذا رأته عيناى من قبل.
(صمت)
الوزير – متى يذهب غضب السماء عن هذا النهر؟
الملك – من يدري؟
الوزير – ألم ير مولاى في تلك الرؤية الهائلة ما ينبئ بالخلاص؟
الملك – (يحاول أن يتذكر) لست أذكر..
الوزير – تذكر يا مولاي؟
الملك – (يحاول التذكر) لست أذكر أكثر مما قصصت عليك .. رأيت النهر أول الأمر في لون الفجر ثم أبصرت أفاعي سوداء قد هبطت فجأة من السماء و في أنيابها سم تسكبه في النهر فإذا هو في لون الليل. و هتف بي من يقول
>حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون.. <
الوزير – ويلاه!
الملك – و قد رأيت الناس كلهم يشربون..
الوزير – إلا إثنان..
الملك – أنا و أنت..
الوزير – وافرحتاه
الملك – علام الفرح أيها الرجل!
الوزير – (يستدرك) عفو مولاي. إن حزني لعظيم. ليتني كنت فداء الملكة.
الملك – شد ما أبغض هذا الكلام. ليتك تستطيع على الأقل أن تجد لها دواء ... يحزنني أن يذهب مثل عقلها الراجح و يخبو هذا الذهن اللامع في سماء هذه المملكة!
الوزير – حقاً ، إنها كالشمس في سماء هذه المملكة!
الملك – نعم. أنت دائماً تردد ما أقول و لا تفعل شيئاً. على برأس الأطباء!
الوزير – رأس الأطباء؟
الملك – نعم رأس الأطباء. لعله يستطيع لها شفاء..
الوزير – مولاى نسى أن رأس الأطباء كذلك قد ذهب..
الملك – ذهب أين؟
الوزير – هو أيضاً من الشاربين.
الملك – يا للمصيبة ..
الوزير – لقد رأيته كذلك بين يدي الملكة و قد تغيرت نظراته و حركاته و كلما لمحني هز رأسه هزاً لا أدرك له معنى.
الملك – رأس الأطباء قد جن؟!
الوزير – نعم ..
الملك – لقد كان نابغة زمانه. أية خسارة أن يصاب مثل هذا الرجل بالجنون..
الوزير – و في وقت نحن أحوج ما نكون إلى علمه و طبه.
الملك – ليس في هذه المملكة الآن غير واحد يستطيع إنقاذنا مما نحن فيه.
الوزير – من يا مولاي؟
الملك – كبير الكهان.
الوزير – واحسرتاه!
الملك – ماذا؟
الوزير – منهم يا مولاي.
الملك – ما تقول؟ من الشاربين؟
الوزير – أجل منهم.
الملك – هذا و لاريب ما يسمى بالخطب الجلل. حتى كبير الكهان أصيب بالجنون و هو أحسن الناس رأياً و أبعدهم نظراً و أثبتهم إيماناً و أطهرهم قلباً و أدناهم إلى السماء!
الوزير – هو القضاء يا مولاي ، ألم أقل أنه قضاء و قع؟!
الملك – أجل إنها لكارثة شاملة. ليس لها من نظير لا في التواريخ و لا في الأساطير. مملكة بأسرها قد أصابها الجنون دفعة واحدة و لم يبق بها ناعم بعقله غير الملك و الوزير!
الوزير – (يرفع رأسه إلى أعلى) رحمة السماء!
الملك – اصغ أيها الوزير. إن السماء التى حبتنا باستثناء و حفظت علينا نعمة العقل لا ريب ترانا خليقين أن تستجيب منا الدعاء. هلم بنا إلى معبد القصر نصلى و ندعو أن ترد إلى الملكة و الناس عقولهم. هذا آخر ملجأ نستطيع أن نلتجئ إليه.
الوزير – أجل يامولاي. آخر ملجأ لنا و خير ملجأ: السماء.
( يخرجان من أحد الأبواب)
(تدخل من باب آخر الملكة و رأس الأطباء و كبير الكهان)
الملكة – إنه لخطب فادح!
رأس الأطباء : (معاً)
كبير الكهان : أجل إنها لطامة كبرى!
الملكة – (لرأس الأطباء) أما من حيلة للطب في رد نور العقل إلى هذين البائسين!
رأس الأطباء – يشق على هذا العجز مني أيتها الملكة.
الملكة – تفكر يا رأس الأطباء.
رأس الأطباء: لقد تفكرت ملياً يا مولاتي ، إن ما أصابهما لا يسعه علمي.
الملكة – أأقنط إذن من شفاء زوجي.
رأس الأطباء – لا تقنطي يا مولاتي. هنالك معجزات تهبط أحياناً من السماء هي فوق طب الأطباء.
الملكة – و متى تهبط تلك المعجزات؟
رأس الأطباء: من يدري يا مولاتي!
الملكة – يا كبير الكهان استنزل لي واحدة منها الآن .. الآن .. الآن..
كبير الكهان – من قال يا مولاتي إني استطيع أن استنزل شيئاً من السماء.
الملكة – أليس هذا من عملك؟
كبير الكهان – إن السماء يا مولاتي ليست كالنخيل يستطيع الإنسان أن يستنزل منها ما شاء من ثمار!
الملكة – ألا تستطيع إذن أن تصنع شيئاً. إني زوج تحب زوجها. إني امرأة تريد إنقاذ رجلها. إنقذوا زوجي. إنقذوا زوجي!
رأس الأطباء – بعض الصبر يا مولاتي.
كبير الكهان – دع الملكة تقول! إنها على حق. هي تبكي زوجاً كريماً. الناس كذلك لو عرفوا الحقيقة لبكوا ملكاً كان حازم الرأي راجح العقل.
الملكة – احذروا أن يعرف الناس الخبر.
كبير الكهان – نحن أصمت من قبر يا مولاتي غير أني أخشى عاقبة الأمر. إنا مهما أخفينا الخبر لابد أن يظهر يوماً من الأيام. و أيُ مصيبة أفدح من علم الناس بأن الملك و الوزير...
الملكة – صه! إن هذا مريع.
كبير الكهان – حقاً أن هذا مريع وعظيم الخطر.
الملكة – ما المخرج؟ لا تقفا من الأمر موقف اليائس. افعلا شيئاً. إني أفقد عقلي أيضاً و لا ريب إن طال أمد هذا الحال.
كبير الكهان – لو أن في مقدوري فهم ما يدور برأسه.
الملكة – إنه يذكر النهر في فزع و يزعم أن ماءه مسموم.
كبير الكهان – و ماذا يشرب إذن؟
الملكة – نبيذ الكروم. ولا شيء غير نبيذ الكروم.
رأس الأطباء – نعم نبيذ الكروم. يغلب على ظني أن الإدمان قد أثر بعقله.
الملكة – إن كان الداء فيما تقول فما أيسر الدواء: نمنع عنه الخمر.
رأس الأطباء – و ماذا يشرب؟
الملكة – ماء النهر.
رأس الأطباء: أتحسبينه يرضى يا مولاتي؟
الملكة – أنا أحمله على ذلك.
رأس الأطباء – (يلتفت إلى صوت قريب) ها هو ذا الملك قادم.
الملكة – (تشير إلى رأس الأطباء و كبير الكهان) اتركانا وحدنا.
( يخرجان و يتركان الملكة تتأهب لملاقاة الملك).
الملك – (يراها فيقف بغتة في مكانه) أنت هنا؟
الملكة – (تنظر إليه ملياً) نعم.
الملك – لماذا تنظرين إليّ هذه النظرات؟
الملكة – (تنظر إليه و تهمس متوسلة) أيتها المعجزات!
الملك – (يتأملها في حزن) ويلى! إن قلبي يتمزق. لو تعلمين مقدار ألمي أيتها العزيزة.
الملكة – (تحدق في وجهه) لماذا؟
الملك – لماذا؟ نعم أنت لا تعرفين. هذا الرأس الجميل لا يمكن الآن أن يعرف.
الملكة – ما الذي يؤلمك أنت؟
الملك – (ينظر إليها ملياً) يؤلمني ... هل استطيع أن أقول؟ هذا فوق ما احتمل.
الملكة – (كالدهشة) إنك تشعر بالنازلة؟
الملك – أتسأليني؟! و أى شعور!
الملكة – (في استغراب) هذا غريب.
الملك – واحزناه!
الملكة – (تتأمله لحظة في إشفاق ثم تجذبه) تعال أيها الوزير اجلس إلى جانبي على هذا الفراش و لا تحزن كل هذا الحزن. لقد آن لهذا الشر أن يزول عنا.
الملك – ماذا تقولين؟!
الملكة – نعم ثق أنه سيزول.
الملك – (يتأملها بدهشاً) إنك تحسين ما حدث؟!
الملكة – كيف لا أحس أيها العزيز وهو يملأ نفسي أسى.
الملك – (ينظر إليها ملياً) هذا عجيب!
الملكة – لماذا تنظر إليّ هذه النظرات!
الملك – (متوسلاً في إشفاق) أيتها السماء!
الملكة – تدعو السماء؟ لقد استجابت السماء!
الملك – ماذا أسمع ..؟
الملكة – (في فرح) لقد وجدنا الدواء.
الملك – وجدتم الدواء؟ متى؟!
الملكة – (في فرح) اليوم.
الملك – (في حرارة) وافرحتاه!..
الملكة – نعم وافرحتاه! إنما ينبغي لك أن تصغى إلى ما أقول و أن تعمل بما أنصح لك به. يجب عليك أن تقلع من فورك عن شرب النبيذ و أن تشرب من ماء النهر.
الملك – (ينظر إليها و قد عاد إلى يأسه و حزنه) ماء النهر!
الملكة – (بقوة) نعم.
الملك – (كالمخاطب نفسه) ويحي أنا الذي حسب السماء قد استجابت!!
الملكة – (في قوة) اصغ إليّ و اعملِ بما أقول.
الملك – (ينظر إليها ملياً في يأس) إني لأرى الأمر يزداد في كل يوم شراً. و هل يخطر لي على بال أنها تتكلم مثل هذا الكلام و أن ما بها يبلغ هذا.. ويلاه! لابد من إنقاذها... لابد من إنقاذها. كاد يذهب من رأسي العقل (يخرج سريعاً): أيها الوزير! عليّ بالوزير!
الملكة – (كالمخاطبة لنفسها في حزن و إطراق) صدق رأس الأطباء. أن الأمر لأعسر مما .. (تتنهد و تخرج)
الوزير – (يدخل من باب آخر متغير الوجه) مولاي! مولاي!
الملك – (يعود أدراجه) أيها الوزير!
الوزير – جئتك بخبر هائل.
الملك – (في رجفة) ماذا أيضاً؟
الوزير – أتدري ما يقول الناس عنا؟
الملك – أي ناس؟
الوزير – المجانين.
الملك – ماذا يقولون؟
الوزير – يزعمون أنهم هم العقلاء و أن الملك و الوزير هما المصابان...
الملك – صه! من قال هذا الهراء؟
الوزير – تلك عقيدتهم الآن.
الملك – (في تهكم حزين) نحن المصابان و هم العقلاء!..
أيتها السماء رحماك! إنهم لا يشعرون أنهم قد جنوا.
الوزير – صدقت
الملك – يخيل إليّ أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الوزير – هذا ما أرى.
الملك – إن الملكة واحسرتاه كانت تحادثني الآن و كأنها تعقل ما تقول. بل لقد كانت تبدي لي الحزن و تسدي إليّ النصح.
الوزير – نعم، نعم. كذلك صنع بي كل من قابلت من رجال القصر و أهل المدينة.
الملك – أيتها السماء رفقاً بهم!
الوزير – (في تردد) و بنا.
الملك – (متسائلاً في دهش) و بنا؟!
الوزير – مولاي! إني أريد أن أقول شيئاً.
الملك – (في خوف) تقول ماذا؟
الوزير – إني كدت أرى ..
الملك – (في خوف) ترى ماذا؟
الوزير – أنهم ... شيء.
الملك – من هم؟!
الوزير – الناس ، المجانين ، إنهم يرموننا بالجنون. و يتهامسون علينا و يتآمرون بنا ، و مهما يكن من أمرهم و أمر عقلهم فإن الغلبة لهم ، بل إنهم هم و حدهم الذين يملكون الفصل بين العقل و الجنون. لأنهم هم البحر و ما نحن إلا حبتان من رمل. أتسمع مني نصحاً يا مولاي؟
الملك – أعرف ما تريد أن تقول.
الوزير – نعم ، هلم نصنع مثلهم و نشرب من ماء النهر!
الملك – (ينظر إلى الوزير ملياً) أيها المسكين! إنك قد شربت! أرى شعاعاً من الجنون يلمع في عينيك.
الوزير – كلا لم أفعل بعد.
الملك – أصدقني القول.
الوزير – (في قوة) أصدقك القول، إني سأشرب و قد أزمعت أن أصير مجنوناً مثل بقية الناس. إني أضيق ذرعاً بهذا العقل بينهم.
الملك – تطفىء من رأسك نور العقل بيديك!
الوزير – نور العقل! ما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين! ثق أنا لو أصررنا على ما نحن فيه لا نأمن أن يثبت علينا هؤلاء القوم. إني لأرى في عيونهم فتنة تضطرم ، و أرى أنهم لن يلبثوا حتى يصيحوا في الطرقات: > الملك ووزيره قد جنا ، فلنخلع المجنونين!<
الملك – و لكنا لسنا بمجنونين!
الوزير – كيف نعلم؟!
الملك – ويحك! أتقول جداً؟
الوزير – إنك قد قلتها الساعة يا مولاى! أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الملك – (صائحاً) و لكني عاقل و هؤلاء الناس مجانين!
الوزير – هم أيضاً يزعمون هذا الزعم.
الملك – و أنت، ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير – عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إن شهادة مجنون لمجنون لاتغني شيئاً.
الملك – و لكنك تعرف أني لم أشرب قط من ماء النهر.
الوزير – أعرف.
الملك – و أني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب، و أصيب الناس لأنهم شربوا.
الوزير – هم يقولون بأنهم إنما سلموا هم من الجنون لأنهم شربوا و أن الملك إنما جُنّ لأنه لم يشرب.
الملك – عجباً! إنها لصفاقة وجه.
الوزير – هذا قولهم و هم المصدقون، و أما أنت فلن تجد واحداً يصدقك!
الملك – أهكذا يستطيعون أيضاً أن يجترئوا على الحق؟!
الوزير – الحق؟! (يخفي ضحكة)
الملك – أتضحك؟!
الوزير – إن هذه الكلمة منا في هذا الموقف غريبة.
الملك – (في رجفة) لماذا؟
الوزير – الحق و العقل و الفضيلة ، كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. و هم وحدهم أصحابها الآن.
الملك – و أنا؟
الوزير – أنت بمفردك لا تملك منها شيئاً.
(الملك يطرق في تفكير و صمت)
الملك – (يرفع رأسه أخيراً) صدقت إني أرى حياتي لا يمكن أن تدوم على هذا النحو.
الوزير – أجل يا مولاي. و أنه لمن الخير لك أن تعيش مع الملكة و الناس في تفاهم و صفاء ، و لو منحت عقلك من أجل ذلك ثمناً!
الملك – (في تفكير) نعم إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة و الناس كما تقول. و أما العقل فماذا يعطيني!
الوزير – لاشيء. إنه يجعلك منبوذا من الجميع، مجنوناً في نظر الجميع!
الملك – إذن فمن الجنون أن لا أختار الجنون.
الوزير – هذا عين ما أقول.
الملك – بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون.
الوزير – هذا لا ريب عندي فيه.
الملك – ما الفرق إذن بين العقل و الجنون!
الوزير – (و قد بوغت) انتظر... (يفكر لحظة) لست أتبين فرقاً!
الملك – (في عجلة) عليّ بكأس من ماء النهر
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
قصة متوسطة الطول أرجو ألا تضيقوا ذرعا بقراءتها للآخر فهي جد ممتعة و ذات معاني كبيرة تعبر عن حال غالبية الناس من جهة و من جهة ثانية أكاد أقول أنها تعبر عن حال قلة من الناس
نهر الجنون
لتوفيق الحكيم
(بهو في قصر ملك من ملوك العصور الغابرة. الملك و وزيره منفردان)
الملك – ما تقص علىَّ مريع!
الوزير – قضاء وقع يا مولاي.
الملك – (في دهش و ذهول) الملكة أيضاً؟
الوزير – (مطرقاً) واحزناه!
الملك – هي أيضاً شربت من ماء النهر؟
الوزير – كما شرب أهل المملكة أجمعين.
الملك – أين رأيت الملكة؟
الوزير – في حديقة القصر.
الملك – ما كان ينقص الخطب إلا هذا!
الوزير – لقد حذرها مولاي أن تقرب ماء النهر و أوصاها أن تشرب من نبيذ الكروم. لكنه القدر!
الملك – قل لي كيف علمت أنها شربت من ماء النهر؟
الوزير – سيماؤها ، حركاتها.
الملك – أحادثتك؟
الوزير – لم أكد أقبل عليها حتى ازورت عني في شبه روع.
كذلك فعلت و صائفها و جواريها و طفقن يتهامسن و ينظرن إلىَّ نظرات الممروريين.
الملك – (كالمخاطب نفسه) كل هذا بدا لعيني في تلك الرؤيا!
الوزير – رحمة بنا أيتها السماء!
الملك – نعم كل هذا رأته عيناى من قبل.
(صمت)
الوزير – متى يذهب غضب السماء عن هذا النهر؟
الملك – من يدري؟
الوزير – ألم ير مولاى في تلك الرؤية الهائلة ما ينبئ بالخلاص؟
الملك – (يحاول أن يتذكر) لست أذكر..
الوزير – تذكر يا مولاي؟
الملك – (يحاول التذكر) لست أذكر أكثر مما قصصت عليك .. رأيت النهر أول الأمر في لون الفجر ثم أبصرت أفاعي سوداء قد هبطت فجأة من السماء و في أنيابها سم تسكبه في النهر فإذا هو في لون الليل. و هتف بي من يقول
>حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون.. <
الوزير – ويلاه!
الملك – و قد رأيت الناس كلهم يشربون..
الوزير – إلا إثنان..
الملك – أنا و أنت..
الوزير – وافرحتاه
الملك – علام الفرح أيها الرجل!
الوزير – (يستدرك) عفو مولاي. إن حزني لعظيم. ليتني كنت فداء الملكة.
الملك – شد ما أبغض هذا الكلام. ليتك تستطيع على الأقل أن تجد لها دواء ... يحزنني أن يذهب مثل عقلها الراجح و يخبو هذا الذهن اللامع في سماء هذه المملكة!
الوزير – حقاً ، إنها كالشمس في سماء هذه المملكة!
الملك – نعم. أنت دائماً تردد ما أقول و لا تفعل شيئاً. على برأس الأطباء!
الوزير – رأس الأطباء؟
الملك – نعم رأس الأطباء. لعله يستطيع لها شفاء..
الوزير – مولاى نسى أن رأس الأطباء كذلك قد ذهب..
الملك – ذهب أين؟
الوزير – هو أيضاً من الشاربين.
الملك – يا للمصيبة ..
الوزير – لقد رأيته كذلك بين يدي الملكة و قد تغيرت نظراته و حركاته و كلما لمحني هز رأسه هزاً لا أدرك له معنى.
الملك – رأس الأطباء قد جن؟!
الوزير – نعم ..
الملك – لقد كان نابغة زمانه. أية خسارة أن يصاب مثل هذا الرجل بالجنون..
الوزير – و في وقت نحن أحوج ما نكون إلى علمه و طبه.
الملك – ليس في هذه المملكة الآن غير واحد يستطيع إنقاذنا مما نحن فيه.
الوزير – من يا مولاي؟
الملك – كبير الكهان.
الوزير – واحسرتاه!
الملك – ماذا؟
الوزير – منهم يا مولاي.
الملك – ما تقول؟ من الشاربين؟
الوزير – أجل منهم.
الملك – هذا و لاريب ما يسمى بالخطب الجلل. حتى كبير الكهان أصيب بالجنون و هو أحسن الناس رأياً و أبعدهم نظراً و أثبتهم إيماناً و أطهرهم قلباً و أدناهم إلى السماء!
الوزير – هو القضاء يا مولاي ، ألم أقل أنه قضاء و قع؟!
الملك – أجل إنها لكارثة شاملة. ليس لها من نظير لا في التواريخ و لا في الأساطير. مملكة بأسرها قد أصابها الجنون دفعة واحدة و لم يبق بها ناعم بعقله غير الملك و الوزير!
الوزير – (يرفع رأسه إلى أعلى) رحمة السماء!
الملك – اصغ أيها الوزير. إن السماء التى حبتنا باستثناء و حفظت علينا نعمة العقل لا ريب ترانا خليقين أن تستجيب منا الدعاء. هلم بنا إلى معبد القصر نصلى و ندعو أن ترد إلى الملكة و الناس عقولهم. هذا آخر ملجأ نستطيع أن نلتجئ إليه.
الوزير – أجل يامولاي. آخر ملجأ لنا و خير ملجأ: السماء.
( يخرجان من أحد الأبواب)
(تدخل من باب آخر الملكة و رأس الأطباء و كبير الكهان)
الملكة – إنه لخطب فادح!
رأس الأطباء : (معاً)
كبير الكهان : أجل إنها لطامة كبرى!
الملكة – (لرأس الأطباء) أما من حيلة للطب في رد نور العقل إلى هذين البائسين!
رأس الأطباء – يشق على هذا العجز مني أيتها الملكة.
الملكة – تفكر يا رأس الأطباء.
رأس الأطباء: لقد تفكرت ملياً يا مولاتي ، إن ما أصابهما لا يسعه علمي.
الملكة – أأقنط إذن من شفاء زوجي.
رأس الأطباء – لا تقنطي يا مولاتي. هنالك معجزات تهبط أحياناً من السماء هي فوق طب الأطباء.
الملكة – و متى تهبط تلك المعجزات؟
رأس الأطباء: من يدري يا مولاتي!
الملكة – يا كبير الكهان استنزل لي واحدة منها الآن .. الآن .. الآن..
كبير الكهان – من قال يا مولاتي إني استطيع أن استنزل شيئاً من السماء.
الملكة – أليس هذا من عملك؟
كبير الكهان – إن السماء يا مولاتي ليست كالنخيل يستطيع الإنسان أن يستنزل منها ما شاء من ثمار!
الملكة – ألا تستطيع إذن أن تصنع شيئاً. إني زوج تحب زوجها. إني امرأة تريد إنقاذ رجلها. إنقذوا زوجي. إنقذوا زوجي!
رأس الأطباء – بعض الصبر يا مولاتي.
كبير الكهان – دع الملكة تقول! إنها على حق. هي تبكي زوجاً كريماً. الناس كذلك لو عرفوا الحقيقة لبكوا ملكاً كان حازم الرأي راجح العقل.
الملكة – احذروا أن يعرف الناس الخبر.
كبير الكهان – نحن أصمت من قبر يا مولاتي غير أني أخشى عاقبة الأمر. إنا مهما أخفينا الخبر لابد أن يظهر يوماً من الأيام. و أيُ مصيبة أفدح من علم الناس بأن الملك و الوزير...
الملكة – صه! إن هذا مريع.
كبير الكهان – حقاً أن هذا مريع وعظيم الخطر.
الملكة – ما المخرج؟ لا تقفا من الأمر موقف اليائس. افعلا شيئاً. إني أفقد عقلي أيضاً و لا ريب إن طال أمد هذا الحال.
كبير الكهان – لو أن في مقدوري فهم ما يدور برأسه.
الملكة – إنه يذكر النهر في فزع و يزعم أن ماءه مسموم.
كبير الكهان – و ماذا يشرب إذن؟
الملكة – نبيذ الكروم. ولا شيء غير نبيذ الكروم.
رأس الأطباء – نعم نبيذ الكروم. يغلب على ظني أن الإدمان قد أثر بعقله.
الملكة – إن كان الداء فيما تقول فما أيسر الدواء: نمنع عنه الخمر.
رأس الأطباء – و ماذا يشرب؟
الملكة – ماء النهر.
رأس الأطباء: أتحسبينه يرضى يا مولاتي؟
الملكة – أنا أحمله على ذلك.
رأس الأطباء – (يلتفت إلى صوت قريب) ها هو ذا الملك قادم.
الملكة – (تشير إلى رأس الأطباء و كبير الكهان) اتركانا وحدنا.
( يخرجان و يتركان الملكة تتأهب لملاقاة الملك).
الملك – (يراها فيقف بغتة في مكانه) أنت هنا؟
الملكة – (تنظر إليه ملياً) نعم.
الملك – لماذا تنظرين إليّ هذه النظرات؟
الملكة – (تنظر إليه و تهمس متوسلة) أيتها المعجزات!
الملك – (يتأملها في حزن) ويلى! إن قلبي يتمزق. لو تعلمين مقدار ألمي أيتها العزيزة.
الملكة – (تحدق في وجهه) لماذا؟
الملك – لماذا؟ نعم أنت لا تعرفين. هذا الرأس الجميل لا يمكن الآن أن يعرف.
الملكة – ما الذي يؤلمك أنت؟
الملك – (ينظر إليها ملياً) يؤلمني ... هل استطيع أن أقول؟ هذا فوق ما احتمل.
الملكة – (كالدهشة) إنك تشعر بالنازلة؟
الملك – أتسأليني؟! و أى شعور!
الملكة – (في استغراب) هذا غريب.
الملك – واحزناه!
الملكة – (تتأمله لحظة في إشفاق ثم تجذبه) تعال أيها الوزير اجلس إلى جانبي على هذا الفراش و لا تحزن كل هذا الحزن. لقد آن لهذا الشر أن يزول عنا.
الملك – ماذا تقولين؟!
الملكة – نعم ثق أنه سيزول.
الملك – (يتأملها بدهشاً) إنك تحسين ما حدث؟!
الملكة – كيف لا أحس أيها العزيز وهو يملأ نفسي أسى.
الملك – (ينظر إليها ملياً) هذا عجيب!
الملكة – لماذا تنظر إليّ هذه النظرات!
الملك – (متوسلاً في إشفاق) أيتها السماء!
الملكة – تدعو السماء؟ لقد استجابت السماء!
الملك – ماذا أسمع ..؟
الملكة – (في فرح) لقد وجدنا الدواء.
الملك – وجدتم الدواء؟ متى؟!
الملكة – (في فرح) اليوم.
الملك – (في حرارة) وافرحتاه!..
الملكة – نعم وافرحتاه! إنما ينبغي لك أن تصغى إلى ما أقول و أن تعمل بما أنصح لك به. يجب عليك أن تقلع من فورك عن شرب النبيذ و أن تشرب من ماء النهر.
الملك – (ينظر إليها و قد عاد إلى يأسه و حزنه) ماء النهر!
الملكة – (بقوة) نعم.
الملك – (كالمخاطب نفسه) ويحي أنا الذي حسب السماء قد استجابت!!
الملكة – (في قوة) اصغ إليّ و اعملِ بما أقول.
الملك – (ينظر إليها ملياً في يأس) إني لأرى الأمر يزداد في كل يوم شراً. و هل يخطر لي على بال أنها تتكلم مثل هذا الكلام و أن ما بها يبلغ هذا.. ويلاه! لابد من إنقاذها... لابد من إنقاذها. كاد يذهب من رأسي العقل (يخرج سريعاً): أيها الوزير! عليّ بالوزير!
الملكة – (كالمخاطبة لنفسها في حزن و إطراق) صدق رأس الأطباء. أن الأمر لأعسر مما .. (تتنهد و تخرج)
الوزير – (يدخل من باب آخر متغير الوجه) مولاي! مولاي!
الملك – (يعود أدراجه) أيها الوزير!
الوزير – جئتك بخبر هائل.
الملك – (في رجفة) ماذا أيضاً؟
الوزير – أتدري ما يقول الناس عنا؟
الملك – أي ناس؟
الوزير – المجانين.
الملك – ماذا يقولون؟
الوزير – يزعمون أنهم هم العقلاء و أن الملك و الوزير هما المصابان...
الملك – صه! من قال هذا الهراء؟
الوزير – تلك عقيدتهم الآن.
الملك – (في تهكم حزين) نحن المصابان و هم العقلاء!..
أيتها السماء رحماك! إنهم لا يشعرون أنهم قد جنوا.
الوزير – صدقت
الملك – يخيل إليّ أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الوزير – هذا ما أرى.
الملك – إن الملكة واحسرتاه كانت تحادثني الآن و كأنها تعقل ما تقول. بل لقد كانت تبدي لي الحزن و تسدي إليّ النصح.
الوزير – نعم، نعم. كذلك صنع بي كل من قابلت من رجال القصر و أهل المدينة.
الملك – أيتها السماء رفقاً بهم!
الوزير – (في تردد) و بنا.
الملك – (متسائلاً في دهش) و بنا؟!
الوزير – مولاي! إني أريد أن أقول شيئاً.
الملك – (في خوف) تقول ماذا؟
الوزير – إني كدت أرى ..
الملك – (في خوف) ترى ماذا؟
الوزير – أنهم ... شيء.
الملك – من هم؟!
الوزير – الناس ، المجانين ، إنهم يرموننا بالجنون. و يتهامسون علينا و يتآمرون بنا ، و مهما يكن من أمرهم و أمر عقلهم فإن الغلبة لهم ، بل إنهم هم و حدهم الذين يملكون الفصل بين العقل و الجنون. لأنهم هم البحر و ما نحن إلا حبتان من رمل. أتسمع مني نصحاً يا مولاي؟
الملك – أعرف ما تريد أن تقول.
الوزير – نعم ، هلم نصنع مثلهم و نشرب من ماء النهر!
الملك – (ينظر إلى الوزير ملياً) أيها المسكين! إنك قد شربت! أرى شعاعاً من الجنون يلمع في عينيك.
الوزير – كلا لم أفعل بعد.
الملك – أصدقني القول.
الوزير – (في قوة) أصدقك القول، إني سأشرب و قد أزمعت أن أصير مجنوناً مثل بقية الناس. إني أضيق ذرعاً بهذا العقل بينهم.
الملك – تطفىء من رأسك نور العقل بيديك!
الوزير – نور العقل! ما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين! ثق أنا لو أصررنا على ما نحن فيه لا نأمن أن يثبت علينا هؤلاء القوم. إني لأرى في عيونهم فتنة تضطرم ، و أرى أنهم لن يلبثوا حتى يصيحوا في الطرقات: > الملك ووزيره قد جنا ، فلنخلع المجنونين!<
الملك – و لكنا لسنا بمجنونين!
الوزير – كيف نعلم؟!
الملك – ويحك! أتقول جداً؟
الوزير – إنك قد قلتها الساعة يا مولاى! أن المجنون لا يشعر أنه مجنون.
الملك – (صائحاً) و لكني عاقل و هؤلاء الناس مجانين!
الوزير – هم أيضاً يزعمون هذا الزعم.
الملك – و أنت، ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير – عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إن شهادة مجنون لمجنون لاتغني شيئاً.
الملك – و لكنك تعرف أني لم أشرب قط من ماء النهر.
الوزير – أعرف.
الملك – و أني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب، و أصيب الناس لأنهم شربوا.
الوزير – هم يقولون بأنهم إنما سلموا هم من الجنون لأنهم شربوا و أن الملك إنما جُنّ لأنه لم يشرب.
الملك – عجباً! إنها لصفاقة وجه.
الوزير – هذا قولهم و هم المصدقون، و أما أنت فلن تجد واحداً يصدقك!
الملك – أهكذا يستطيعون أيضاً أن يجترئوا على الحق؟!
الوزير – الحق؟! (يخفي ضحكة)
الملك – أتضحك؟!
الوزير – إن هذه الكلمة منا في هذا الموقف غريبة.
الملك – (في رجفة) لماذا؟
الوزير – الحق و العقل و الفضيلة ، كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. و هم وحدهم أصحابها الآن.
الملك – و أنا؟
الوزير – أنت بمفردك لا تملك منها شيئاً.
(الملك يطرق في تفكير و صمت)
الملك – (يرفع رأسه أخيراً) صدقت إني أرى حياتي لا يمكن أن تدوم على هذا النحو.
الوزير – أجل يا مولاي. و أنه لمن الخير لك أن تعيش مع الملكة و الناس في تفاهم و صفاء ، و لو منحت عقلك من أجل ذلك ثمناً!
الملك – (في تفكير) نعم إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة و الناس كما تقول. و أما العقل فماذا يعطيني!
الوزير – لاشيء. إنه يجعلك منبوذا من الجميع، مجنوناً في نظر الجميع!
الملك – إذن فمن الجنون أن لا أختار الجنون.
الوزير – هذا عين ما أقول.
الملك – بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون.
الوزير – هذا لا ريب عندي فيه.
الملك – ما الفرق إذن بين العقل و الجنون!
الوزير – (و قد بوغت) انتظر... (يفكر لحظة) لست أتبين فرقاً!
الملك – (في عجلة) عليّ بكأس من ماء النهر