أولى هذه المواقف ما كان من طارق بن زياد. البطل الأمازيغي المسلم. غزا الأندلس ومعه اثنا عشر ألفا من البربر وخلق يسير من العرب... وذكر عنه أنه كان نائما وقت عبور البحر في المركب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يمشون على الماء حتى مروا به فبشره النبي بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد (الاستقصا، ج1، ص153).
ماذا راح طارق يفعل بالأندلس؟ وفي سبيل ماذا يخاطر بحياته؟ أليس هو البربري الأصيل فلماذا يأتمر بأمر موسى بن نصير العربي الدخيل؟ تساؤلات ضرورية لفهم موقف رجل أمازيغي من عيار طارق من الإسلام الذي اختاره وانتسب إليه.
كان طارق مجاهدا يكرس حياته لنشر الإسلام، أتته البشائر وتلك سيما المخلص الصادق في إسلامه. ولم يكن يتحرز أو يتحرج -كما يتحرج بعض معاصرينا- من الاصطفاف إلى جانب العرب المسلمين لنشر الإسلام، كان في جيشه أكثر من عشرين تابعيا صحبوا وأخذوا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: علي بن رباح اللخمي، وزيد بن قاسط السكسكي، وحيوة بن رجاء التميمي، وعلي بن عثمان بن خطاب وغيرهم... (نفح الطيب، ج1، ص288).
ولمن يفقه الدين ولا يقف عند الظواهر نسوق طرفا من حديث نبوي رواه مسلم في صحيحه قال فيه النبي عليه السلام: (.. ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم) حديث رقم 2532.
طارق إذن من تابعي التابعين ممن صحب واقتدى بأتباع من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الدرس الذي تمليه علينا سيرته ويمليه علينا جهاده الخالد: أن نتخذه قدوة في جهاده لنشر الإسلام وحبه للمسلمين أيّا كان معدنهم.
بعد ذلك بسنوات وفي سنة 96 هجرية ظهرت إمارة النكور (أنشأها واحد من الفاتحين المسلمين العرب في شمال المغرب الأقصى وهو يسمى صالح بن منصور الحميري وقد استمرت هذه الإمارة في الوجود حتى قضى عليها المرابطون في القرن الخامس الهجري، وكانت في معظم فترات تاريخها حليفة لدولة بني أمية في الأندلس ومعتمدة عليها) (أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس ص179)، ما كان لصالح أن يصنع تاريخا لوحده، ولا لمدينة أن تظهر بإسلامها وتثبت على ذلك عهودا لولا اللحمة الدينية التي جمعت أبناء الريف بالفاتح المسلم وقبلت دعوته، فقد كان صالح داعية للإسلام أوصل دعوته إلى صنهاجة وغمارة وكثير من القبائل.
وشبيه بهذا موقف رجل أمازيغي أصيل من بحبوحة دار الأمازيغ، كان رئيس قبيلته. إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي، وفد عليه إدريس بن عبد الله الكامل (فأقبل عليه إسحاق وأكرمه وبالغ في بره ..فلما دخل رمضان من السنة المذكورة (172هـ) جمع إخوانه وقبائل أوربة فعرفهم بنسب إدريس وفضله وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وعلمه وكمال خلال الفضائل المجتمعة فيه، فقالوا: الحمد لله الذي أتانا به وشرفنا بجواره فهو سيدنا ونحن عبيده نموت بين يديه فما تريد منا؟ قال:تبايعونه، قالوا: سمعا وطاعة. ما منا من يتوقف عن بيعته وما يريد... ثم بعد ذلك أتته قبائل زناتة وأصناف قبائل البربر من أهل المغرب منهم زواغة وزواوة ولماية وسدراتة وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة فبايعوه ودخلوا في طاعته (روض القرطاس ص19-20).
بايعته قبائل أمازيغية إذ وجدت فيه رمز الإسلام لما علمت من شرف نسبه وكرم أخلاقه، فملأ بهيبته القلوب فانجذبت إليه محبة وتعظيما، يكشف ذلك عن تعلق روحي بآل البيت يكنها لهم الأمازيغ. كان مما دعاهم إليه أن قال: (أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى العدل في الرعية والقسم بالسوية..... وإحياء السنة وإماتة البدعة. ونفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد... وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وفرض قتال المعاندين على الحق والمعتدين عليه... فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور وأنصار الكتاب والسنة القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيئين...) (المغرب عبر التاريخ، ج1، ص116). ما ترددت تلك القبائل عن مبايعته ومناصرته إلى ما دعاهم إليه: تحكيم الكتاب وإحياء السنة ومنع الظلم. فانطلق الأمازيغ معه غزاة مظفرين في البلاد فنشروا الإسلام ووصل إلى آفاق كانت مرتعا للخرافة والرذيلة، وتوطد الأمن وتآخت القبائل وتوحدت بعد عهود من الصراع والنزاع.فظهرت لأول مرة في شمال أفريقيا دولة إسلامية تحمل كل معاني الدولة الحقيقية.
درس ثان نستفيده من أجدادنا زمن إدريس الأول، فما كانت دولة لتتأسس وتصل بالمنطقة إلى ما وصلت إليه لولا موقف الأمازيغ حين قبلوا دعوة المولى إدريس وأيقنوا أن الإسلام هو الضامن للوحدة والعزة والسيادة.. وقد كان..
تمر الأيام وتضعف الدولة لأسباب داخلية أكثر مما هي خارجية، وتمر سنين وعقود والبلاد في متوالية من الصراعات والفتن ويشاء الله أن تبدأ دورة حضارية جديدة في شمال أفريقيا على يد صوفي أمازيغي هو عبد الله بن ياسين تلميذ المربي الصوفي وجاج بن زلو ورفيق الرجل الصالح يحيى بن إبراهيم الكدالي.
في قبيلة لمتونة شرع يعلمهم الدين ويسوسهم بآداب الشرع ويكبحهم عن كثير من مألوفاتهم الفاسدة مثل الزواج بأكثر من أربعة. فاستصعبوا ذلك وتركوا الأخذ عنه.فلما رأى إعراضهم عنه قرر الرحيل فأشار عليه يحيى الكدالي باعتزالهم في رباط يقيمون به للتعبد والتنسك ما بقي من حياتهما إلى جانب سبعة آخرين من كدالة... وتسامع الملثمون بهم فصاروا يتواردون عليهم حتى بلغ عددهم المآت وتقبلوا دعوته عن طواعية واقتناع. وقد سماهم ابن ياسين المرابطين للزومهم رابطته.
وفي سنة 434 هجرية وجه ابن ياسين إنذارا للملثمين وأعيانهم بعد أن وعظهم وحاول إقناعهم باللين حتى يغيروا منكراتهم، فقد كان أمراؤهم يتصرفون في الرعايا بشدة العسف والظلم وحملهم على مقتضى الشهوة والغرض فلم يلتفتوا إلى نصحه فأخضعهم بالقوة، فبدأ بلمتونة وكدالة ثم مسوفة فدخلوا في طاعته وبيعته بعد أن تابوا عما هم عليه.
وفي سنة 447 هجرية وبرغبة من فقهاء سجلماسة دخل إليها فوضع حدا لمظالم بني وانودين وقتل أميرها مسعود بن وانودين، كما استولى على درعة. ثم واصل المرابطون فتوحاتهم وتخليص البلاد ممن يسوس الناس بالقهر والظلم. فأسندت قيادة الجيش إلى يوسف بن تاشفين وقد كان ممن قبل دعوة ابن ياسين عن طواعية وصحبه في رباطه، فزحف إلى السوس فاستولى على تارودانت ثم أغمات فتادلا ثم شرع المرابطون في جهاد البرغواطيين سنة 451 هجرية، أثخنوا فيهم قتلا وتشريدا حتى أعادوهم إلى الإسلام. وهناك استشهد عبد الله بن ياسين (الناصري ص7، المغرب عبر التاريخ، ص158-159-160) .
هكذا تنتهي حياة هذا الرجل العظيم وقد أمضى عشرين عاما في الدعوة والجهاد وتربية الرجال.. وقد أتينا بهذا السرد الطويل من تاريخه ملخصا ومن مصادره لنذكّر أن الإسلام كان دائما منبع قوة الأمازيغ وسدى قومتهم ونهضتهم وصانع تاريخهم. ما كانوا يناضلون بعيدا عن الدين ولا كانت مواقفهم تصدر عن غير الإسلام. وهكذا انطلق يوسف بن تاشفين بانيا على هذا الأساس الديني الذي وضعه سلفه ابن ياسين ليشيّد واحدة من أعاظم الدول في تاريخ الإسلام.
ستنهار بعد وفاة يوسف بن تاشفين دولة المرابطين ذات الأساس الديني لأسباب أفاض فيها المؤرخون. فقد اتسع نفوذ الفقهاء ذوي الفكر المتشدد فكرسوا عقلية متحجرة في التفكير والمعتقد وضيقوا على حرية المذاهب، كما تحكمت النساء في كثير من وظائف الدولة. أما الوضع الاجتماعي فقد انحل وطغى الفساد واستشرى البغي والخمر بين الناس وفسدت الأخلاق، أما السلطان فقد انعزل إلى الصلاة والعبادة بعيدا عن هموم رعيته. (ن-م.ص169-170).
ووسط هذا الوضع المتأزم الذي طال كل ميدان كان لابد من رجل يعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي، رجل يكرس حياته لبناء ما تهدم، ويجدد في الأمة قوتها وحيويتها. رجل له من قوة الطموح ما يمكنه من الثبات أمام كل العقبات التي قد يصادفها، وله من العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ما يؤهله لوضع خطة كفيلة بإخراج البلاد من أزماتها. فكان ذلك الرجل هو: محمد ابن تومرت.. لا يسلم مؤرخو زماننا بنسبه الشريف فهو عندهم بربري أصيل من المصامدة.
ولد محمد ابن تومرت عام 584هـ وشب -كما ذكر ابن خلدون في تاريخه- قارئا محبا للعلم وكان يسمى "أسافو" ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج من القناديل بالمساجد لملازمتها (ص301، ج6). ورحل إلى المشرق طالبا للعلم فحج ودخل العراق فلقي العلماء وفحول النظار وأخذ عن الأشاعرة (وكان في جملة من لقي من العلماء الذين أخذ عنهم العلم الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه ورحمه، لازمه لاقتباس العلم منه ثلاث سنين، فكان أبو حامد الغزالي إذا دخل عليه المهدي يتأمله ويختبر أحواله الظاهرة والباطنة.فإذا خرج عنه يقول لجلسائه: لابد لهذا البربري من دولة) (روض القرطاس، ص 172).
يثبت المؤرخون ويوثقون صحبة ابن تومرت للغزالي، فلا يبدو لهم من ذلك غير أخذ العلم وإفادة الأفكار فهي عندهم صحبة فكرية ليس إلاّ. فيتجاوزون بذلك أهم مرحلة في تاريخ الرجل: صحبة الغزالي، وما كانت صحبة الأولياء لتذهب سدى خصوصا من رجل أمضى شبابه ملازما للمساجد كابن تومرت. عاد وهو ممتلئ إيمانا ويقينا أن الله ممكنه من بناء دولة إسلامية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وفي طريقه أقام مدة برباط المنستير الصوفي بتونس مع صلحائه.ثم أقام بتلمسان بمسجد العباد وكانت له هيبة وقوة شخصية جذبت الوجهاء وكثيرا من العامة.
كانت مجالس الصلحاء محطات يتزود منها ابن تومرت. ففي كل محطة تربوية يرابط فيها يخرج داعيا وإن تعرض للأذى. فبعد صحبة الغزالي ببغداد وفي رباط أبي سعيد نجده يخرج إلى مصر فيبالغ في الإنكار على ما يخالف الشرع فيتأذى بسبب ذلك. ويتكرر الأمر بعد عكوفه بالمنستير فينطلق إلى بجاية واعظا فيطرده واليها ومن هناك إلى جامع العباد بتلمسان فيجذب بقوة شخصيته أعدادا من الناس فيتصدى له قاضي تلمسان وعبثا كان ذلك التصدي.
هذا جانب من سيرة ابن تومرت يغفل عنه المؤرخون، جانب الصحبة والاقتباس بالمجالسة والمخاللة (والمرء على دين خليله). يكشف مرة أخرى عن أهم البواعث في عملية التغيير، وهي التمسك بالدين والتملؤ من أهله والاستعصام به في مواجهة التحديات. وهكذا قام ابن تومرت بعد أن اجتمع حوله الأنصار من المصامدة وكثروا يربيهم على الإيمان ويحرر لهم العقيدة بالأمازيغية، ويعلمهم الأخذ بطريقة السلف الصالح. وينظمهم تنظيما دقيقا ومحكما لمحاربة المرابطين. ورويدا رويدا حتى تمكن خلفاؤه ومن أبرزهم عبد المومن ثم أبو يعقوب يوسف وولده يعقوب المنصور من تأسيس أعظم دولة في شمال أفريقيا وحّدت المغرب الكبير من برقة شرقا إلى المحيط غربا إضافة إلى الأندلس التي وضعوا فيها حدا لأطماع النصارى. كل ذلك بناء على الأساس الديني الذي انطلق منه ابن تومرت رحمه الله والمتوفى سنة 524هـ.
هذا هو ابن تومرت الرجل الصالح، وصلاحه باد في نفعه للمسلمين بما أسس وخطط له. وبعضهم يقدمه للقراء في صورة دجال سفاك للدماء بغير وجه حق استنادا إلى مرويات تاريخية موجودة في المصادر القديمة. ولكنها لم تنل حقها من الدراسة في التحقيق والترتيب في سياقها. وهذا ما يعطينا صورة مضطربة حول شخصيته. وما يهمنا هو أن ابن تومرت الأمازيغي ومعه المصامدة الأمازيغ أثبتوا كما أثبت أسلافهم أن الإسلام والإيمان وحدهما منبع القوة وضمانة النصر والسيادة.
نتخطى آماد الزمن وقد ظهر فيه مجاهدون أبطال أمازيغ أمثال العياشي ويوسف الفاسي والحسن اليوسي ومقراني... وغيرهم كثير، لنقف عند واحد هو إمام المجاهدين في العصر الأخير ومفخرة المسلمين محمد بن عبد الكريم الخطابي. لننظر في جانب من أهم جوانب حياته، والذي تسكت عنه أغلب دراسات الجيل الجديد سكوت إهمال وتحريف، وهو الجانب الديني، ندرسه لا من حيث تشكيل هويته كمسلم بل لكونه الباعث القوي على قومته وثورته والغاية التي ناضل من أجلها وجاهد. وحتى يكون كلامي موضوعيا فسأكتفي بشهادة مؤلفين لا خلاف حولهم ممن عاصروا الخطابي أو سمعوا ممن عاصروه.
يقول الأستاذ محمد العلمي في كتابه: زعيم الريف: "وفي يوم 15 أكتوبر1920 دخل الجنرال برنغيز إلى الشاون دخولا رسميا على رأس الجيوش الإسبانية فرأى أهل الريف في هذا الحادث مغزى خاصا، واعتبروا أنه بإمكان الجيوش الإسبانية أن تدخل إلى مساجد المسلمين مهما أنها سمحت لنفسها الدخول إلى مدينة الأولياء والصالحين. وفي هذه الظروف وبسبب الدافع الديني قرر عبد الكريم الخطابي (الأب) وهو شيخ هرم محاربة إسبانيا... وهكذا هجمت جماعة من أهل الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي على معسكر تافرسيت الإسباني ولقي حتفه خلال هذا الهجوم". ص20.
كانت الثورة بدافع ديني ذبا عن المقدسات.وكان الإبن محمد بن عبد الكريم مشاركا في هذه المعركة. ثم ما لبث أن بايعه أهل الريف بعد وفاة أبيه. فكيف كان ذلك؟ يجيب الأستاذ العلمي: "وكان أكثر الريفيين أميين ولكن إسلامهم متين يحترمون الفقهاء وعلماء الدين المتخرجين من جامعة القرويين في فاس مثل محمد عبد الكريم الذي أعربوا له عن طاعتهم وولائهم ما دام يدافع عن حرمة الدين والوطن. فمن أجل هذا الهدف انضمت القبائل إلى الثورة" ص26. لنسجل إذن أن انضمام الأهالي إلى الثورة كان بدافع ديني.
ويقول محمد عمر بلقاضي في كتابه: أسد الريف وهو ممن شارك الخطابي في معارك: "وبعد وفاة والده بأيام قليلة برز إلى الميدان وصار يتصل برجال القبائل وأعيانها يبث فيها روح الوطنية الحقيقية التي تتمشى مع الإسلام والشريعة المطهرة ويستدل بالكتاب والسنة في جميع أحاديثه ومواعظه البعيدة المدى، وكان شغله الشاغل هو المصالحة بين الأفراد والجماعات في جميع المد اشر والقرى" ص96.
في سنة 1921 م تداعى أكثر من 500 مجاهد يمثلون قبائلهم إلى إمزورن لحضور مؤتمر دعا إليه الأمير الخطابي.عن هذا المؤتمر يقول محمد عمر بلقاضي: "وحينئذ اقترح الزعيم على الحاضرين بأن يعاهدوا الله على المصحف الكريم على ما يلي:
1- يعاهدون الله على أن يدافعوا عن وطنهم وشرفهم ووحدة ترابهم إلى أن يستشهدوا في سبيل ذلك.
2- بأن يلتزموا بتنفيذ الأحكام الشرعية على كل من صدرت منه جريمة ما ولو كان من أبنائهم وأقربائهم. فقبلوا اقتراحه بالإجماع" ص96.
ويقول الأمير الخطابي في مذكراته التي حررها روجر ماثيو عام 1927م: "الدين هو أقوى الروابط وأمتن علائق المؤاخاة" ص73. يشير بذلك إلى الروح التي وحدت قبائل الريف فثارت ضد الاستعمار. وكأني بواحد من المتحذلقين يعترض بأن سياسة الخطابي ماهي إلا إيديولوجية للتأثير على الأهالي. ولكن من كان له أدنى اطلاع على سيرة الرجل ومواقفه يقطع يقينا بسخافة الاعتراض. وإلى هاهنا ننتهي إلى تحقيق القول بأثر الإسلام في كل النهضات التي عرفها الأمازيغ منذ أن دخلوا فيه واعتنقوه. وإلى القول بأن موقف الأمازيغ من الإسلام من خلال رموزهم وأبطالهم التاريخيين لم يقتصر على الرضى والقبول به كدين وسلوك. بل تعدى إلى اعتباره الأساس الذي انطلقوا منه لصنع التاريخ وتشييد الحضارة.
ماذا راح طارق يفعل بالأندلس؟ وفي سبيل ماذا يخاطر بحياته؟ أليس هو البربري الأصيل فلماذا يأتمر بأمر موسى بن نصير العربي الدخيل؟ تساؤلات ضرورية لفهم موقف رجل أمازيغي من عيار طارق من الإسلام الذي اختاره وانتسب إليه.
كان طارق مجاهدا يكرس حياته لنشر الإسلام، أتته البشائر وتلك سيما المخلص الصادق في إسلامه. ولم يكن يتحرز أو يتحرج -كما يتحرج بعض معاصرينا- من الاصطفاف إلى جانب العرب المسلمين لنشر الإسلام، كان في جيشه أكثر من عشرين تابعيا صحبوا وأخذوا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: علي بن رباح اللخمي، وزيد بن قاسط السكسكي، وحيوة بن رجاء التميمي، وعلي بن عثمان بن خطاب وغيرهم... (نفح الطيب، ج1، ص288).
ولمن يفقه الدين ولا يقف عند الظواهر نسوق طرفا من حديث نبوي رواه مسلم في صحيحه قال فيه النبي عليه السلام: (.. ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم) حديث رقم 2532.
طارق إذن من تابعي التابعين ممن صحب واقتدى بأتباع من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الدرس الذي تمليه علينا سيرته ويمليه علينا جهاده الخالد: أن نتخذه قدوة في جهاده لنشر الإسلام وحبه للمسلمين أيّا كان معدنهم.
بعد ذلك بسنوات وفي سنة 96 هجرية ظهرت إمارة النكور (أنشأها واحد من الفاتحين المسلمين العرب في شمال المغرب الأقصى وهو يسمى صالح بن منصور الحميري وقد استمرت هذه الإمارة في الوجود حتى قضى عليها المرابطون في القرن الخامس الهجري، وكانت في معظم فترات تاريخها حليفة لدولة بني أمية في الأندلس ومعتمدة عليها) (أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس ص179)، ما كان لصالح أن يصنع تاريخا لوحده، ولا لمدينة أن تظهر بإسلامها وتثبت على ذلك عهودا لولا اللحمة الدينية التي جمعت أبناء الريف بالفاتح المسلم وقبلت دعوته، فقد كان صالح داعية للإسلام أوصل دعوته إلى صنهاجة وغمارة وكثير من القبائل.
وشبيه بهذا موقف رجل أمازيغي أصيل من بحبوحة دار الأمازيغ، كان رئيس قبيلته. إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي، وفد عليه إدريس بن عبد الله الكامل (فأقبل عليه إسحاق وأكرمه وبالغ في بره ..فلما دخل رمضان من السنة المذكورة (172هـ) جمع إخوانه وقبائل أوربة فعرفهم بنسب إدريس وفضله وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وعلمه وكمال خلال الفضائل المجتمعة فيه، فقالوا: الحمد لله الذي أتانا به وشرفنا بجواره فهو سيدنا ونحن عبيده نموت بين يديه فما تريد منا؟ قال:تبايعونه، قالوا: سمعا وطاعة. ما منا من يتوقف عن بيعته وما يريد... ثم بعد ذلك أتته قبائل زناتة وأصناف قبائل البربر من أهل المغرب منهم زواغة وزواوة ولماية وسدراتة وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة فبايعوه ودخلوا في طاعته (روض القرطاس ص19-20).
بايعته قبائل أمازيغية إذ وجدت فيه رمز الإسلام لما علمت من شرف نسبه وكرم أخلاقه، فملأ بهيبته القلوب فانجذبت إليه محبة وتعظيما، يكشف ذلك عن تعلق روحي بآل البيت يكنها لهم الأمازيغ. كان مما دعاهم إليه أن قال: (أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى العدل في الرعية والقسم بالسوية..... وإحياء السنة وإماتة البدعة. ونفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد... وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وفرض قتال المعاندين على الحق والمعتدين عليه... فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور وأنصار الكتاب والسنة القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيئين...) (المغرب عبر التاريخ، ج1، ص116). ما ترددت تلك القبائل عن مبايعته ومناصرته إلى ما دعاهم إليه: تحكيم الكتاب وإحياء السنة ومنع الظلم. فانطلق الأمازيغ معه غزاة مظفرين في البلاد فنشروا الإسلام ووصل إلى آفاق كانت مرتعا للخرافة والرذيلة، وتوطد الأمن وتآخت القبائل وتوحدت بعد عهود من الصراع والنزاع.فظهرت لأول مرة في شمال أفريقيا دولة إسلامية تحمل كل معاني الدولة الحقيقية.
درس ثان نستفيده من أجدادنا زمن إدريس الأول، فما كانت دولة لتتأسس وتصل بالمنطقة إلى ما وصلت إليه لولا موقف الأمازيغ حين قبلوا دعوة المولى إدريس وأيقنوا أن الإسلام هو الضامن للوحدة والعزة والسيادة.. وقد كان..
تمر الأيام وتضعف الدولة لأسباب داخلية أكثر مما هي خارجية، وتمر سنين وعقود والبلاد في متوالية من الصراعات والفتن ويشاء الله أن تبدأ دورة حضارية جديدة في شمال أفريقيا على يد صوفي أمازيغي هو عبد الله بن ياسين تلميذ المربي الصوفي وجاج بن زلو ورفيق الرجل الصالح يحيى بن إبراهيم الكدالي.
في قبيلة لمتونة شرع يعلمهم الدين ويسوسهم بآداب الشرع ويكبحهم عن كثير من مألوفاتهم الفاسدة مثل الزواج بأكثر من أربعة. فاستصعبوا ذلك وتركوا الأخذ عنه.فلما رأى إعراضهم عنه قرر الرحيل فأشار عليه يحيى الكدالي باعتزالهم في رباط يقيمون به للتعبد والتنسك ما بقي من حياتهما إلى جانب سبعة آخرين من كدالة... وتسامع الملثمون بهم فصاروا يتواردون عليهم حتى بلغ عددهم المآت وتقبلوا دعوته عن طواعية واقتناع. وقد سماهم ابن ياسين المرابطين للزومهم رابطته.
وفي سنة 434 هجرية وجه ابن ياسين إنذارا للملثمين وأعيانهم بعد أن وعظهم وحاول إقناعهم باللين حتى يغيروا منكراتهم، فقد كان أمراؤهم يتصرفون في الرعايا بشدة العسف والظلم وحملهم على مقتضى الشهوة والغرض فلم يلتفتوا إلى نصحه فأخضعهم بالقوة، فبدأ بلمتونة وكدالة ثم مسوفة فدخلوا في طاعته وبيعته بعد أن تابوا عما هم عليه.
وفي سنة 447 هجرية وبرغبة من فقهاء سجلماسة دخل إليها فوضع حدا لمظالم بني وانودين وقتل أميرها مسعود بن وانودين، كما استولى على درعة. ثم واصل المرابطون فتوحاتهم وتخليص البلاد ممن يسوس الناس بالقهر والظلم. فأسندت قيادة الجيش إلى يوسف بن تاشفين وقد كان ممن قبل دعوة ابن ياسين عن طواعية وصحبه في رباطه، فزحف إلى السوس فاستولى على تارودانت ثم أغمات فتادلا ثم شرع المرابطون في جهاد البرغواطيين سنة 451 هجرية، أثخنوا فيهم قتلا وتشريدا حتى أعادوهم إلى الإسلام. وهناك استشهد عبد الله بن ياسين (الناصري ص7، المغرب عبر التاريخ، ص158-159-160) .
هكذا تنتهي حياة هذا الرجل العظيم وقد أمضى عشرين عاما في الدعوة والجهاد وتربية الرجال.. وقد أتينا بهذا السرد الطويل من تاريخه ملخصا ومن مصادره لنذكّر أن الإسلام كان دائما منبع قوة الأمازيغ وسدى قومتهم ونهضتهم وصانع تاريخهم. ما كانوا يناضلون بعيدا عن الدين ولا كانت مواقفهم تصدر عن غير الإسلام. وهكذا انطلق يوسف بن تاشفين بانيا على هذا الأساس الديني الذي وضعه سلفه ابن ياسين ليشيّد واحدة من أعاظم الدول في تاريخ الإسلام.
ستنهار بعد وفاة يوسف بن تاشفين دولة المرابطين ذات الأساس الديني لأسباب أفاض فيها المؤرخون. فقد اتسع نفوذ الفقهاء ذوي الفكر المتشدد فكرسوا عقلية متحجرة في التفكير والمعتقد وضيقوا على حرية المذاهب، كما تحكمت النساء في كثير من وظائف الدولة. أما الوضع الاجتماعي فقد انحل وطغى الفساد واستشرى البغي والخمر بين الناس وفسدت الأخلاق، أما السلطان فقد انعزل إلى الصلاة والعبادة بعيدا عن هموم رعيته. (ن-م.ص169-170).
ووسط هذا الوضع المتأزم الذي طال كل ميدان كان لابد من رجل يعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي، رجل يكرس حياته لبناء ما تهدم، ويجدد في الأمة قوتها وحيويتها. رجل له من قوة الطموح ما يمكنه من الثبات أمام كل العقبات التي قد يصادفها، وله من العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ما يؤهله لوضع خطة كفيلة بإخراج البلاد من أزماتها. فكان ذلك الرجل هو: محمد ابن تومرت.. لا يسلم مؤرخو زماننا بنسبه الشريف فهو عندهم بربري أصيل من المصامدة.
ولد محمد ابن تومرت عام 584هـ وشب -كما ذكر ابن خلدون في تاريخه- قارئا محبا للعلم وكان يسمى "أسافو" ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج من القناديل بالمساجد لملازمتها (ص301، ج6). ورحل إلى المشرق طالبا للعلم فحج ودخل العراق فلقي العلماء وفحول النظار وأخذ عن الأشاعرة (وكان في جملة من لقي من العلماء الذين أخذ عنهم العلم الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه ورحمه، لازمه لاقتباس العلم منه ثلاث سنين، فكان أبو حامد الغزالي إذا دخل عليه المهدي يتأمله ويختبر أحواله الظاهرة والباطنة.فإذا خرج عنه يقول لجلسائه: لابد لهذا البربري من دولة) (روض القرطاس، ص 172).
يثبت المؤرخون ويوثقون صحبة ابن تومرت للغزالي، فلا يبدو لهم من ذلك غير أخذ العلم وإفادة الأفكار فهي عندهم صحبة فكرية ليس إلاّ. فيتجاوزون بذلك أهم مرحلة في تاريخ الرجل: صحبة الغزالي، وما كانت صحبة الأولياء لتذهب سدى خصوصا من رجل أمضى شبابه ملازما للمساجد كابن تومرت. عاد وهو ممتلئ إيمانا ويقينا أن الله ممكنه من بناء دولة إسلامية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وفي طريقه أقام مدة برباط المنستير الصوفي بتونس مع صلحائه.ثم أقام بتلمسان بمسجد العباد وكانت له هيبة وقوة شخصية جذبت الوجهاء وكثيرا من العامة.
كانت مجالس الصلحاء محطات يتزود منها ابن تومرت. ففي كل محطة تربوية يرابط فيها يخرج داعيا وإن تعرض للأذى. فبعد صحبة الغزالي ببغداد وفي رباط أبي سعيد نجده يخرج إلى مصر فيبالغ في الإنكار على ما يخالف الشرع فيتأذى بسبب ذلك. ويتكرر الأمر بعد عكوفه بالمنستير فينطلق إلى بجاية واعظا فيطرده واليها ومن هناك إلى جامع العباد بتلمسان فيجذب بقوة شخصيته أعدادا من الناس فيتصدى له قاضي تلمسان وعبثا كان ذلك التصدي.
هذا جانب من سيرة ابن تومرت يغفل عنه المؤرخون، جانب الصحبة والاقتباس بالمجالسة والمخاللة (والمرء على دين خليله). يكشف مرة أخرى عن أهم البواعث في عملية التغيير، وهي التمسك بالدين والتملؤ من أهله والاستعصام به في مواجهة التحديات. وهكذا قام ابن تومرت بعد أن اجتمع حوله الأنصار من المصامدة وكثروا يربيهم على الإيمان ويحرر لهم العقيدة بالأمازيغية، ويعلمهم الأخذ بطريقة السلف الصالح. وينظمهم تنظيما دقيقا ومحكما لمحاربة المرابطين. ورويدا رويدا حتى تمكن خلفاؤه ومن أبرزهم عبد المومن ثم أبو يعقوب يوسف وولده يعقوب المنصور من تأسيس أعظم دولة في شمال أفريقيا وحّدت المغرب الكبير من برقة شرقا إلى المحيط غربا إضافة إلى الأندلس التي وضعوا فيها حدا لأطماع النصارى. كل ذلك بناء على الأساس الديني الذي انطلق منه ابن تومرت رحمه الله والمتوفى سنة 524هـ.
هذا هو ابن تومرت الرجل الصالح، وصلاحه باد في نفعه للمسلمين بما أسس وخطط له. وبعضهم يقدمه للقراء في صورة دجال سفاك للدماء بغير وجه حق استنادا إلى مرويات تاريخية موجودة في المصادر القديمة. ولكنها لم تنل حقها من الدراسة في التحقيق والترتيب في سياقها. وهذا ما يعطينا صورة مضطربة حول شخصيته. وما يهمنا هو أن ابن تومرت الأمازيغي ومعه المصامدة الأمازيغ أثبتوا كما أثبت أسلافهم أن الإسلام والإيمان وحدهما منبع القوة وضمانة النصر والسيادة.
نتخطى آماد الزمن وقد ظهر فيه مجاهدون أبطال أمازيغ أمثال العياشي ويوسف الفاسي والحسن اليوسي ومقراني... وغيرهم كثير، لنقف عند واحد هو إمام المجاهدين في العصر الأخير ومفخرة المسلمين محمد بن عبد الكريم الخطابي. لننظر في جانب من أهم جوانب حياته، والذي تسكت عنه أغلب دراسات الجيل الجديد سكوت إهمال وتحريف، وهو الجانب الديني، ندرسه لا من حيث تشكيل هويته كمسلم بل لكونه الباعث القوي على قومته وثورته والغاية التي ناضل من أجلها وجاهد. وحتى يكون كلامي موضوعيا فسأكتفي بشهادة مؤلفين لا خلاف حولهم ممن عاصروا الخطابي أو سمعوا ممن عاصروه.
يقول الأستاذ محمد العلمي في كتابه: زعيم الريف: "وفي يوم 15 أكتوبر1920 دخل الجنرال برنغيز إلى الشاون دخولا رسميا على رأس الجيوش الإسبانية فرأى أهل الريف في هذا الحادث مغزى خاصا، واعتبروا أنه بإمكان الجيوش الإسبانية أن تدخل إلى مساجد المسلمين مهما أنها سمحت لنفسها الدخول إلى مدينة الأولياء والصالحين. وفي هذه الظروف وبسبب الدافع الديني قرر عبد الكريم الخطابي (الأب) وهو شيخ هرم محاربة إسبانيا... وهكذا هجمت جماعة من أهل الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي على معسكر تافرسيت الإسباني ولقي حتفه خلال هذا الهجوم". ص20.
كانت الثورة بدافع ديني ذبا عن المقدسات.وكان الإبن محمد بن عبد الكريم مشاركا في هذه المعركة. ثم ما لبث أن بايعه أهل الريف بعد وفاة أبيه. فكيف كان ذلك؟ يجيب الأستاذ العلمي: "وكان أكثر الريفيين أميين ولكن إسلامهم متين يحترمون الفقهاء وعلماء الدين المتخرجين من جامعة القرويين في فاس مثل محمد عبد الكريم الذي أعربوا له عن طاعتهم وولائهم ما دام يدافع عن حرمة الدين والوطن. فمن أجل هذا الهدف انضمت القبائل إلى الثورة" ص26. لنسجل إذن أن انضمام الأهالي إلى الثورة كان بدافع ديني.
ويقول محمد عمر بلقاضي في كتابه: أسد الريف وهو ممن شارك الخطابي في معارك: "وبعد وفاة والده بأيام قليلة برز إلى الميدان وصار يتصل برجال القبائل وأعيانها يبث فيها روح الوطنية الحقيقية التي تتمشى مع الإسلام والشريعة المطهرة ويستدل بالكتاب والسنة في جميع أحاديثه ومواعظه البعيدة المدى، وكان شغله الشاغل هو المصالحة بين الأفراد والجماعات في جميع المد اشر والقرى" ص96.
في سنة 1921 م تداعى أكثر من 500 مجاهد يمثلون قبائلهم إلى إمزورن لحضور مؤتمر دعا إليه الأمير الخطابي.عن هذا المؤتمر يقول محمد عمر بلقاضي: "وحينئذ اقترح الزعيم على الحاضرين بأن يعاهدوا الله على المصحف الكريم على ما يلي:
1- يعاهدون الله على أن يدافعوا عن وطنهم وشرفهم ووحدة ترابهم إلى أن يستشهدوا في سبيل ذلك.
2- بأن يلتزموا بتنفيذ الأحكام الشرعية على كل من صدرت منه جريمة ما ولو كان من أبنائهم وأقربائهم. فقبلوا اقتراحه بالإجماع" ص96.
ويقول الأمير الخطابي في مذكراته التي حررها روجر ماثيو عام 1927م: "الدين هو أقوى الروابط وأمتن علائق المؤاخاة" ص73. يشير بذلك إلى الروح التي وحدت قبائل الريف فثارت ضد الاستعمار. وكأني بواحد من المتحذلقين يعترض بأن سياسة الخطابي ماهي إلا إيديولوجية للتأثير على الأهالي. ولكن من كان له أدنى اطلاع على سيرة الرجل ومواقفه يقطع يقينا بسخافة الاعتراض. وإلى هاهنا ننتهي إلى تحقيق القول بأثر الإسلام في كل النهضات التي عرفها الأمازيغ منذ أن دخلوا فيه واعتنقوه. وإلى القول بأن موقف الأمازيغ من الإسلام من خلال رموزهم وأبطالهم التاريخيين لم يقتصر على الرضى والقبول به كدين وسلوك. بل تعدى إلى اعتباره الأساس الذي انطلقوا منه لصنع التاريخ وتشييد الحضارة.