"حميدة" يكفي أن تمنحه جسدك ليحولك إلى إنسان آخر "نوفو"
رائحة الأوساخ تزكم الأنوف، استنشاقها للوهلة الأولى وأنا أدفع الباب الخشبي الثقيل المؤدي إلى الغرفة الأولى ذكرتني بتلك الرائحة التي تفاجئ المرء وهو يلج بهو منزل ظل مغلقا لسنوات، وقد اخضرت جنباته بالعفن الناتج عن الرطوبة، هكذا هي رائحة الحمام الذي ولجناه بسيدي مومن، بخار الماء الساخن يحجب الرؤية، وبقايا "الصابون البلدي" عالقة بالجدران، وقد ساهمت حرارة المكان المرتفعة في إذابتها مما جعل قطعة الصابون المائعة تتحول إلى خيوط بنية أقرب إلى السواد وهي تنحو في اتجاه الأسفل، وضعها هناك يدل على أن بعض المستحمين غير المبالين بنظافة المكان رموا بها لتلتصق بالجدران، حتى أصبحت حيطان الحمام أشبه بفروة الفهد بفعل البقع البنية المتزاحمة على مساحتها، سقف الحمام نصف دائري، وقد تجمعت به بعض قطرات الماء، المتقاربة لتسقط الواحدة تلوى الأخرى، دائما أتحاشى سقوطها بفعل برودتها التي تشعرني بالقشعريرة وسط هذا الحمام الأشبه بسقر.
بهذا الحمام ثلاثة صالات واسعة (البرانية، الوسطانية، وبيت النار)، تزداد درجة الحرارة بها كلما انتقلنا من غرفة إلى أخرى، وقد اخترت آنذاك الغرفة "الوسطانية"، حيث الحرارة أقل بكثير من تلك التي تفيض من " بيت النار" التي تضم "البرمة"، حتى أن الضوء المتسلل من نافذتها الزجاجية أعلى السقف الدائري يساعد شيئا ما على الرؤية الهلامية، حيث لا تتوضح لك صور الأجساد المتدلية على البرمة أو المرتخية على الأرضية الساخنة إلا بعد لحظات من الاستئناس بفضاء الصالة الحار، قبالتي كان (حميدة 43 سنة) يتفنن في تمرير "خرقة" سوداء على ظهر رجل عجوز، كان منبطحا وقد مد يديه ليبدو كأنه في لحظة عناق حميمية مع دلو أسود خيوطه تدلت من فرط الاستعمال، وكان كلما حك ظهر الرجل إلا وصب ملأ راحته العريضة ما تضمه من ماء ساخن، وكان أيضا عندما ينتهي من حك عضو من أعضاءه يضرب براحته الإسفلت لتتطاير قطرات الماء الدقيقة، في إشارة إلى أنه سينتقل إلى عضو آخر، حميدة "كسال" مشهور بهذا الحمام، وزبناؤه كثر، وحسب بعض المستحمين يكفي أن تمنحه جسدك ليحولك إلى إنسان آخر (نوفو)، أومأت لـ "حميدة" بأن دوري في "التكسال" سيأتي بعد الرجل ليخاطبني قائلا "أنت هو الثالث، حيث باقي زوج رجالة تايتسناو"، كانت الفرصة مناسبة كي ألاحظ كيفية اشتغاله على أجساد المستحمين، فعندما انتهى من حك جسد العجوز، (من رأسه إلى أخمص قدميه)، أمره بالانبطاح أرضا وأن يضع جبهته على أرض الحمام الحمراء، جلس حميدة على ظهر العجوز، وجذب كتفيه من فوق حتى تقوس ظهره، حيث بدا حميدة كأنه يمتطي صهوة حصان خشبي كتلك الأحصنة التي تتأرجح ذهابا وإيابا، وكان كلما جذبه أكثر إلا وأصدر العجوز أصواتا أقرب إلى الآهات ليضرب براحته الأرض وهي إشارة إلى حميدة بأنه وصل إلى الحد الأقصى في عملية الجذب، بعد انتهاء هذه العملية أعاده إلى وضعه الطبيعي، ثم عاود الكرة مرة ثانية، لكن بطريقة مختلفة، إذ وضع يديه خلف رقبة العجوز، بعد أن تشابكت أصابعه، لتتدلى رقبته، ثم جدبه مرة ثانية حتى تقوس ظهره وما إن مططه أكثر حتى ضرب العجوز براحته مرة أخرى على الأرض قائلا "باركا"، فبالرغم من كون العجوز كان يجد صعوبة في التحرك إلا أن جسده أصبح تحت يدي "الكسال" كقطعة مطاطية لدرجة أن العجوز بدا في آخر المطاف كشاب امتصت حركات الكسال شيخوخته لترتسم على محياه المليء بالتجاعيد علامات الرضا والارتياح.
بعد أن جاء دوري في "التكسال" أو التدليك، ترددت بادئ الأمر، فمن خلال حركات حميدة مع العجوز ومع الرجلين اللذان كانا قبلي انتابني الخوف والتوجس علىاعتبار أن حميدة يقوم بتلك العمليات المعقدة وكذا الحركات التمطيطية، بشكل عشوائي، إلا أنه قاطع حواري الداخلي قائلا: "ما تخافش.. دازوا من أمثالك المئات"،بادئ الأمر أفرغ الدلوين اللذين كانا بحوزتي من الماء، وتوجه إلى الغرفة الساخنة حيث "الربمة" وملأهما عن آخرهما، كان أحدهما ساخنا إلى درجة المائة، بينما الآخر كان دافئا، أخذ الدلو الساخن وأمرني بالابتعاد عن المكان الذي عمرت فيه حوالي ساعة من الزمن، ثم صب الماء على امتداد مساحته وقال "هذه العملية ضرورية في الحمام، وأنصحك أن تعمل بها كلما وجدت نفسك في (السخون)، هل تعلم لماذا؟ الأمر بسيط، فالحرارة تقتل الجراثيم المتبقية والمكان هنا مليء بملايين من أنواعها"، سألته عن الثمن فأجابني بأن أجرته ليست محددة، فهناك من يمنحه 15 درهم، وآخر يمده بـ 20 وقليل من يتجاوز ذلك، فمدخوله من الحمام قد يفوق 100 درهم لكن أيام السبت والأحد وكذا الأعياد الدينية يتجاوز مبلغه اليومي أحيانا 300 درهم، لكن بالمقابل يسهر على نظافة الحمام طيلة مدة اشتغاله، فليس حميدة وحده من يقوم بـ "تكسال" الزبناء، فهم ثلاثة "كسالة" يتناوبون على حك وتدليك المستحمين الراغبين في الاستفادة من خدماتهم، ويحكي حميدة أنه في شهر رمضان من السنة الفارطة، وجد نفسه يخدم زبونا بدا له أنه ميسور الحال، ومن خلال حديثه معه تبين له أن الذي بين يديه وتحت "خرقته" ضابط شرطة ممتاز، عندها يقول حميدة "تفننت في تدليكه، بل أقسمت أن أزيل منه الوسخ المترسب لسنوات، لكنه عند خروجه منحني 10 دراهم وقال لي" جرحتيني في ظهري" ثم أضاف حميدة "ففي مهنة (تكسالت) لا نعيش سوى مع (الحباب) البسطاء أمثالنا، لكن الآخرين الذين يتعففون عن منح مبلغ 20 أو 30 درهم، فأظن أنهم يمنحون أكثر في حمامات الصونا التي يتقاضى فيها المدلك مبلغا محصورا ما بين 200 و500 درهم.
من كسال إلى مدير جريدة ثم مقيم بالخارج
يعرفه الأطفال والشيوخ والعجزة آنذاك، اشتهر في حيه بـ "الكسال"، عاش سنوات وهو يزيل الأوساخ من الأجساد الممدة في "بيت النار" أو "السخون" مقابل 10دراهم، وحسب أحد أبناء حيه، فإن هذا "الكسال" الذي أصبحت هذه الصفة تضايقه كان من بين أهم "الكسالين" بحومته التي تضم حوالي أربع حمامات بلدية آنذاك، حاليا فالرجل الذي قضى ثلث عمره داخل المياه الساخنة واهبا نفسه لخدمة المستحمين، يكره كل من يشير له أو يومئ بأنه كان "كسال" يقتات من تدليك وتمطيط أطراف زبنائه، والسبب هو أن الرجل الذي لم يكن يوما يفارق كيسه الأسود والخشن أصبح من أصحاب السفريات المتجهة نحو إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وتحول من رجل يقضي أكثر من عشر ساعات بين حيطان الحمام وأوساخ الزبناء إلى رجل يمنح هو الآخر جسده المشبع بالمياه إلى "الكسال" عند نهاية كل أسبوع، هذا إذا دخل المغرب أما في الديار الأوروبية فالأمر يختلف، تعليمه محدود جدا ويكاد يكون أميا، وبالرغم من ذلك فقد كان ذا فطنة فريدة ساعدته أن يستوعب ما حوله، وأن يدبر حياته وفق تصوراته ونظرته للحياة.
(رشيد 38 سنة) وجد نفسه في احتكاك مباشر مع الرجل "الكسال"، بل عاش فترة التحول التي قلبت حايته رأسا على عقب، يقول رشيد"سمعت أن الرجل عمل بنصيحة زبون بالحمام، حثه على أن يغير طريقة عيشه، وقد نصحه أن يغير مهنته من "كسال" إلى مصور يلتقط الصور قرب المستشفيات والحدائق العمومية، ويقال أيضا إن الزبون منحه آلة تصوير كي يشرع في مزاولة مهنته الجديدة، وهكذا أصبح الرجل مصورا يقتنص الصور للمرضى والزوار بمستشفى بالدار البيضاء، ثم بعد ذلك لم يفارق مهنة التصوير التي كانت تذر عليه دخلا أكثر من مدخوله وهو يزيل العياء والتعب والبرد من ثنايا الأجساد العارية الممدة في الحمام، ذات صباح صادف وجوده قرب باب المستشفى وفدا أمريكيا يزور آنذاك المستشفى للاطلاع على أحوال المرضى وكذا الخصاص الذي تعانيه مرافقه وأجهزته الطبية، وكان أن استغل الرجل الفرصة في التقاط صورة للوفد الأمريكي، مركزا عدسته على مسؤولة كبيرة في القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء، وبعد حوالي أسبوع ذهب "الكسال" بألبوم مرتب بعناية مركزة، إلى مقر عمل المسؤولة بالقنصلية الأمريكية بالدار البيضاء ليمنحها ألبوم الصور، أعجبت به كثيرا، وسألته بالمناسبة عن عمله، ليجيبها بأنه مصور صحفي وكذا مدير تحرير جريدة شهرية، فاقترحت عليه أن يزور الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتردد الرجل ليجد نفسه بعد حوالي ثلاثة أسابيع في بلاد العام السام، حيث قضى هناك سنة كاملة، وعاد الرجل إنسانا آخر وأصبحت نظرته مخالفة لنظرته الأولى وهو يبحث عن لقمة العيش من غسل أوساخ المستحمين فلم يبرح مكانه حتى توجه إلى الديار الايطالية، اشتغل هناك وأصبح لا يعود إلى المغرب إلا وبحوزته ما يلهب به أنظار زبنائه القدامى، وكأنه كان يسعى أن يزيل أوساخ مهنة وجد نفسه مكرها على مزاولتها، وبعد حوالي ثلاث سنوات حمل معه أبناءه ليزرعهم في قلب العاصمة الايطالية، وكأنه أراد أن ينزع كل الجذور التي تربطه ببلده الذي حوله مكرها إلى رجل الحمام الأول الذي تنتعش أبدان الزبناء "بتكسيلته" وبفضل حركاته وقدراته الهائلة في التمطيط وطرد العياء، لكنه في آخر المطاف عاد للمغرب بعد أن أنجز مشروع يدر عليه أرباحا مهمة في محاولة منه للمصالحة مع الوطن، انه مسار "كسال" ابتسم له الحظ من خلال عدسات التصوير.
كوابيس تطارد الكسالة
لا زالت بعض المدن المغربية حريصة في الحفاظ على الحمامات التقليدية العريقة "البلدية" كما لا تزال ساكنتها وفية في رسم صورة فريدة عن "الكسال" باعتباره الجسد ـ الشمعة الذي يحترق لينير أجساد الآخرين، ( كمال 41 سنة) يرى أن "الكسال" ضروري في المجتمع "فأحيانا يجد المرء نفسه متعبا وعاجزا عن حمل الكيس أو "الخرقة" لتكييس بدنه وسرعان ما يجد أمامه رجل الخلاص الذي يغنيه عن عناء "الحك" وإزالة الأوساخ، وهو "الكسال"، يقول كمال المنحدر من مدينة الجديدة.
أما السعدية امرأة مسنة تقطن بالحي البرتغالي (إقليم الجديدة) فتقول " إن الكسالة أو طيابة الحمام كما يحلو لبعض المناطق مناداتها تختلف خدماتها عن الكسال، فهي لا تقوم بتدليك أطراف النساء، لكنها بالمقابل تقوم بخدمة الزبونات بدأ من تخصيص أمكنة لهن، وكذا توفير المياه ثم سهرها على إزالة أوساخهن وتسريح شعرهن إلى آخر مرحلة تحول فيها الكسالة زبونتها إلى شمعة أو( بلارة) إن صح التعبير"، ومن خلال زياراتنا لبعض الحمامات الشعبية التي تعتمد في تسخين المياه على الخشب، لاحظنا أن أغلب "الكسالة" لا يتجاوز مدخولهم اليومي مبلغ 70 إلى 120 درهم في اليوم الواحد، فهناك من يمنحهم 10 دراهم، وهناك من يتجاوز ذلك بقليل.
مصطفى كسال قضى 9 سنوات في ممارسة هاته المهنة بأكثر من خمس حمامات بمدينة الدار البيضاء، يقول إن هذه المهنة تمنحه شعورا دائما بالارتياح ولو أنها متعبة وتضعف طاقته باستمرار، ويرجع هذا الارتياح يقول مصطفى " إلى أني أخدم الرجال بتطهيرهم وخدمتهم طيلة فترة تواجدهم بالحمام، وكما يقال سيد القوم خادمهم، لذا لا أشعر بالخجل وأنا أمارس هذه المهنة الشريفة بالرغم من كون البعض يسخر ويستلقي ضاحكا كلما سمع كلمة كسال، ففي سنة 1998 وجدت نفسي مطرودا من العمل بشركة "باطا"، فلم أجد بدا آنذاك سوى أن أشتغل بالحمام، وبحمد الله فقد وفرت لي "تاكساليت" طرف ديال الخبز حلال باش نعيش ثلاثة نفوس" بينما عثمان الذي قضى في مهنته 11 سنة فإنه يرى أن مهنته تجعله أطهر خلق الله في الأرض لاسيما أنه دائم الاستحمام، إلا أنه لا يخفي خوفه الدائم من المستقبل، يقول عثمان " نحن الذين نوفر خدمات جليلة للمستحمين نخاف أن يأتي يوم نجد أنفسنا فيه خارج الحمام، فلا ضمان اجتماعي يمكنه أن يوفر لنا العيش بعد انتهاء مدة صلاحيتنا ولا صحة لنا تمكننا بعد ذلك من الاشتغال في مهنة أخرى، لكن الخوف الكبير هو أن الزبناء أصبحوا في غنى عن خدماتنا، فالزبون الذي سيمنحكم 20 أو 30 درهما يفضل أن يجلب معه صديقا يؤدي ثمن دخوله للحمام مقابل تكييسه وكذا "تكسيله"، ثم إن البعض أصبح يفضل حمامات الصونا التي تتوفر على مدلكين يعملون بأدوات خاصة في "التكسال" وهي عبارة عن مراهم خاصة، أغلبها طبية مستخلصة من الأعشاب، لكن العينة التي تتوجه إلى هناك ميسورة الحال، إذ تؤدي مبالغ مالية مهمة من أجل راحتها.
كخلاصة القول، فإن الكسال الذي يجعل طاقته وصحته في خدمة الزبناء، يبقى دوره أساسيا وهاما في المجتمع المغربي، إذ لولاه لما استطاع المرهق والمتعب والمريض الاستحمام كما ينبغي دون وجوده كالظل في أقبية الحمام وصالاته، وهو يعرض خدماته الجبارة في الوسط الساخن، إلا أن هذا الكائن الذي ينزع الضحك من الزبناء والسخرية من مبتكري النكت، يظل أطهر المخلوقات على وجه البسيطة، لا لشيء سوى أنه في استحمام دائم بعيد عن الرجس والنجاسة، فمزيدا من الاحترام والتقدير.
رائحة الأوساخ تزكم الأنوف، استنشاقها للوهلة الأولى وأنا أدفع الباب الخشبي الثقيل المؤدي إلى الغرفة الأولى ذكرتني بتلك الرائحة التي تفاجئ المرء وهو يلج بهو منزل ظل مغلقا لسنوات، وقد اخضرت جنباته بالعفن الناتج عن الرطوبة، هكذا هي رائحة الحمام الذي ولجناه بسيدي مومن، بخار الماء الساخن يحجب الرؤية، وبقايا "الصابون البلدي" عالقة بالجدران، وقد ساهمت حرارة المكان المرتفعة في إذابتها مما جعل قطعة الصابون المائعة تتحول إلى خيوط بنية أقرب إلى السواد وهي تنحو في اتجاه الأسفل، وضعها هناك يدل على أن بعض المستحمين غير المبالين بنظافة المكان رموا بها لتلتصق بالجدران، حتى أصبحت حيطان الحمام أشبه بفروة الفهد بفعل البقع البنية المتزاحمة على مساحتها، سقف الحمام نصف دائري، وقد تجمعت به بعض قطرات الماء، المتقاربة لتسقط الواحدة تلوى الأخرى، دائما أتحاشى سقوطها بفعل برودتها التي تشعرني بالقشعريرة وسط هذا الحمام الأشبه بسقر.
بهذا الحمام ثلاثة صالات واسعة (البرانية، الوسطانية، وبيت النار)، تزداد درجة الحرارة بها كلما انتقلنا من غرفة إلى أخرى، وقد اخترت آنذاك الغرفة "الوسطانية"، حيث الحرارة أقل بكثير من تلك التي تفيض من " بيت النار" التي تضم "البرمة"، حتى أن الضوء المتسلل من نافذتها الزجاجية أعلى السقف الدائري يساعد شيئا ما على الرؤية الهلامية، حيث لا تتوضح لك صور الأجساد المتدلية على البرمة أو المرتخية على الأرضية الساخنة إلا بعد لحظات من الاستئناس بفضاء الصالة الحار، قبالتي كان (حميدة 43 سنة) يتفنن في تمرير "خرقة" سوداء على ظهر رجل عجوز، كان منبطحا وقد مد يديه ليبدو كأنه في لحظة عناق حميمية مع دلو أسود خيوطه تدلت من فرط الاستعمال، وكان كلما حك ظهر الرجل إلا وصب ملأ راحته العريضة ما تضمه من ماء ساخن، وكان أيضا عندما ينتهي من حك عضو من أعضاءه يضرب براحته الإسفلت لتتطاير قطرات الماء الدقيقة، في إشارة إلى أنه سينتقل إلى عضو آخر، حميدة "كسال" مشهور بهذا الحمام، وزبناؤه كثر، وحسب بعض المستحمين يكفي أن تمنحه جسدك ليحولك إلى إنسان آخر (نوفو)، أومأت لـ "حميدة" بأن دوري في "التكسال" سيأتي بعد الرجل ليخاطبني قائلا "أنت هو الثالث، حيث باقي زوج رجالة تايتسناو"، كانت الفرصة مناسبة كي ألاحظ كيفية اشتغاله على أجساد المستحمين، فعندما انتهى من حك جسد العجوز، (من رأسه إلى أخمص قدميه)، أمره بالانبطاح أرضا وأن يضع جبهته على أرض الحمام الحمراء، جلس حميدة على ظهر العجوز، وجذب كتفيه من فوق حتى تقوس ظهره، حيث بدا حميدة كأنه يمتطي صهوة حصان خشبي كتلك الأحصنة التي تتأرجح ذهابا وإيابا، وكان كلما جذبه أكثر إلا وأصدر العجوز أصواتا أقرب إلى الآهات ليضرب براحته الأرض وهي إشارة إلى حميدة بأنه وصل إلى الحد الأقصى في عملية الجذب، بعد انتهاء هذه العملية أعاده إلى وضعه الطبيعي، ثم عاود الكرة مرة ثانية، لكن بطريقة مختلفة، إذ وضع يديه خلف رقبة العجوز، بعد أن تشابكت أصابعه، لتتدلى رقبته، ثم جدبه مرة ثانية حتى تقوس ظهره وما إن مططه أكثر حتى ضرب العجوز براحته مرة أخرى على الأرض قائلا "باركا"، فبالرغم من كون العجوز كان يجد صعوبة في التحرك إلا أن جسده أصبح تحت يدي "الكسال" كقطعة مطاطية لدرجة أن العجوز بدا في آخر المطاف كشاب امتصت حركات الكسال شيخوخته لترتسم على محياه المليء بالتجاعيد علامات الرضا والارتياح.
بعد أن جاء دوري في "التكسال" أو التدليك، ترددت بادئ الأمر، فمن خلال حركات حميدة مع العجوز ومع الرجلين اللذان كانا قبلي انتابني الخوف والتوجس علىاعتبار أن حميدة يقوم بتلك العمليات المعقدة وكذا الحركات التمطيطية، بشكل عشوائي، إلا أنه قاطع حواري الداخلي قائلا: "ما تخافش.. دازوا من أمثالك المئات"،بادئ الأمر أفرغ الدلوين اللذين كانا بحوزتي من الماء، وتوجه إلى الغرفة الساخنة حيث "الربمة" وملأهما عن آخرهما، كان أحدهما ساخنا إلى درجة المائة، بينما الآخر كان دافئا، أخذ الدلو الساخن وأمرني بالابتعاد عن المكان الذي عمرت فيه حوالي ساعة من الزمن، ثم صب الماء على امتداد مساحته وقال "هذه العملية ضرورية في الحمام، وأنصحك أن تعمل بها كلما وجدت نفسك في (السخون)، هل تعلم لماذا؟ الأمر بسيط، فالحرارة تقتل الجراثيم المتبقية والمكان هنا مليء بملايين من أنواعها"، سألته عن الثمن فأجابني بأن أجرته ليست محددة، فهناك من يمنحه 15 درهم، وآخر يمده بـ 20 وقليل من يتجاوز ذلك، فمدخوله من الحمام قد يفوق 100 درهم لكن أيام السبت والأحد وكذا الأعياد الدينية يتجاوز مبلغه اليومي أحيانا 300 درهم، لكن بالمقابل يسهر على نظافة الحمام طيلة مدة اشتغاله، فليس حميدة وحده من يقوم بـ "تكسال" الزبناء، فهم ثلاثة "كسالة" يتناوبون على حك وتدليك المستحمين الراغبين في الاستفادة من خدماتهم، ويحكي حميدة أنه في شهر رمضان من السنة الفارطة، وجد نفسه يخدم زبونا بدا له أنه ميسور الحال، ومن خلال حديثه معه تبين له أن الذي بين يديه وتحت "خرقته" ضابط شرطة ممتاز، عندها يقول حميدة "تفننت في تدليكه، بل أقسمت أن أزيل منه الوسخ المترسب لسنوات، لكنه عند خروجه منحني 10 دراهم وقال لي" جرحتيني في ظهري" ثم أضاف حميدة "ففي مهنة (تكسالت) لا نعيش سوى مع (الحباب) البسطاء أمثالنا، لكن الآخرين الذين يتعففون عن منح مبلغ 20 أو 30 درهم، فأظن أنهم يمنحون أكثر في حمامات الصونا التي يتقاضى فيها المدلك مبلغا محصورا ما بين 200 و500 درهم.
من كسال إلى مدير جريدة ثم مقيم بالخارج
يعرفه الأطفال والشيوخ والعجزة آنذاك، اشتهر في حيه بـ "الكسال"، عاش سنوات وهو يزيل الأوساخ من الأجساد الممدة في "بيت النار" أو "السخون" مقابل 10دراهم، وحسب أحد أبناء حيه، فإن هذا "الكسال" الذي أصبحت هذه الصفة تضايقه كان من بين أهم "الكسالين" بحومته التي تضم حوالي أربع حمامات بلدية آنذاك، حاليا فالرجل الذي قضى ثلث عمره داخل المياه الساخنة واهبا نفسه لخدمة المستحمين، يكره كل من يشير له أو يومئ بأنه كان "كسال" يقتات من تدليك وتمطيط أطراف زبنائه، والسبب هو أن الرجل الذي لم يكن يوما يفارق كيسه الأسود والخشن أصبح من أصحاب السفريات المتجهة نحو إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وتحول من رجل يقضي أكثر من عشر ساعات بين حيطان الحمام وأوساخ الزبناء إلى رجل يمنح هو الآخر جسده المشبع بالمياه إلى "الكسال" عند نهاية كل أسبوع، هذا إذا دخل المغرب أما في الديار الأوروبية فالأمر يختلف، تعليمه محدود جدا ويكاد يكون أميا، وبالرغم من ذلك فقد كان ذا فطنة فريدة ساعدته أن يستوعب ما حوله، وأن يدبر حياته وفق تصوراته ونظرته للحياة.
(رشيد 38 سنة) وجد نفسه في احتكاك مباشر مع الرجل "الكسال"، بل عاش فترة التحول التي قلبت حايته رأسا على عقب، يقول رشيد"سمعت أن الرجل عمل بنصيحة زبون بالحمام، حثه على أن يغير طريقة عيشه، وقد نصحه أن يغير مهنته من "كسال" إلى مصور يلتقط الصور قرب المستشفيات والحدائق العمومية، ويقال أيضا إن الزبون منحه آلة تصوير كي يشرع في مزاولة مهنته الجديدة، وهكذا أصبح الرجل مصورا يقتنص الصور للمرضى والزوار بمستشفى بالدار البيضاء، ثم بعد ذلك لم يفارق مهنة التصوير التي كانت تذر عليه دخلا أكثر من مدخوله وهو يزيل العياء والتعب والبرد من ثنايا الأجساد العارية الممدة في الحمام، ذات صباح صادف وجوده قرب باب المستشفى وفدا أمريكيا يزور آنذاك المستشفى للاطلاع على أحوال المرضى وكذا الخصاص الذي تعانيه مرافقه وأجهزته الطبية، وكان أن استغل الرجل الفرصة في التقاط صورة للوفد الأمريكي، مركزا عدسته على مسؤولة كبيرة في القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء، وبعد حوالي أسبوع ذهب "الكسال" بألبوم مرتب بعناية مركزة، إلى مقر عمل المسؤولة بالقنصلية الأمريكية بالدار البيضاء ليمنحها ألبوم الصور، أعجبت به كثيرا، وسألته بالمناسبة عن عمله، ليجيبها بأنه مصور صحفي وكذا مدير تحرير جريدة شهرية، فاقترحت عليه أن يزور الولايات المتحدة الأمريكية، لم يتردد الرجل ليجد نفسه بعد حوالي ثلاثة أسابيع في بلاد العام السام، حيث قضى هناك سنة كاملة، وعاد الرجل إنسانا آخر وأصبحت نظرته مخالفة لنظرته الأولى وهو يبحث عن لقمة العيش من غسل أوساخ المستحمين فلم يبرح مكانه حتى توجه إلى الديار الايطالية، اشتغل هناك وأصبح لا يعود إلى المغرب إلا وبحوزته ما يلهب به أنظار زبنائه القدامى، وكأنه كان يسعى أن يزيل أوساخ مهنة وجد نفسه مكرها على مزاولتها، وبعد حوالي ثلاث سنوات حمل معه أبناءه ليزرعهم في قلب العاصمة الايطالية، وكأنه أراد أن ينزع كل الجذور التي تربطه ببلده الذي حوله مكرها إلى رجل الحمام الأول الذي تنتعش أبدان الزبناء "بتكسيلته" وبفضل حركاته وقدراته الهائلة في التمطيط وطرد العياء، لكنه في آخر المطاف عاد للمغرب بعد أن أنجز مشروع يدر عليه أرباحا مهمة في محاولة منه للمصالحة مع الوطن، انه مسار "كسال" ابتسم له الحظ من خلال عدسات التصوير.
كوابيس تطارد الكسالة
لا زالت بعض المدن المغربية حريصة في الحفاظ على الحمامات التقليدية العريقة "البلدية" كما لا تزال ساكنتها وفية في رسم صورة فريدة عن "الكسال" باعتباره الجسد ـ الشمعة الذي يحترق لينير أجساد الآخرين، ( كمال 41 سنة) يرى أن "الكسال" ضروري في المجتمع "فأحيانا يجد المرء نفسه متعبا وعاجزا عن حمل الكيس أو "الخرقة" لتكييس بدنه وسرعان ما يجد أمامه رجل الخلاص الذي يغنيه عن عناء "الحك" وإزالة الأوساخ، وهو "الكسال"، يقول كمال المنحدر من مدينة الجديدة.
أما السعدية امرأة مسنة تقطن بالحي البرتغالي (إقليم الجديدة) فتقول " إن الكسالة أو طيابة الحمام كما يحلو لبعض المناطق مناداتها تختلف خدماتها عن الكسال، فهي لا تقوم بتدليك أطراف النساء، لكنها بالمقابل تقوم بخدمة الزبونات بدأ من تخصيص أمكنة لهن، وكذا توفير المياه ثم سهرها على إزالة أوساخهن وتسريح شعرهن إلى آخر مرحلة تحول فيها الكسالة زبونتها إلى شمعة أو( بلارة) إن صح التعبير"، ومن خلال زياراتنا لبعض الحمامات الشعبية التي تعتمد في تسخين المياه على الخشب، لاحظنا أن أغلب "الكسالة" لا يتجاوز مدخولهم اليومي مبلغ 70 إلى 120 درهم في اليوم الواحد، فهناك من يمنحهم 10 دراهم، وهناك من يتجاوز ذلك بقليل.
مصطفى كسال قضى 9 سنوات في ممارسة هاته المهنة بأكثر من خمس حمامات بمدينة الدار البيضاء، يقول إن هذه المهنة تمنحه شعورا دائما بالارتياح ولو أنها متعبة وتضعف طاقته باستمرار، ويرجع هذا الارتياح يقول مصطفى " إلى أني أخدم الرجال بتطهيرهم وخدمتهم طيلة فترة تواجدهم بالحمام، وكما يقال سيد القوم خادمهم، لذا لا أشعر بالخجل وأنا أمارس هذه المهنة الشريفة بالرغم من كون البعض يسخر ويستلقي ضاحكا كلما سمع كلمة كسال، ففي سنة 1998 وجدت نفسي مطرودا من العمل بشركة "باطا"، فلم أجد بدا آنذاك سوى أن أشتغل بالحمام، وبحمد الله فقد وفرت لي "تاكساليت" طرف ديال الخبز حلال باش نعيش ثلاثة نفوس" بينما عثمان الذي قضى في مهنته 11 سنة فإنه يرى أن مهنته تجعله أطهر خلق الله في الأرض لاسيما أنه دائم الاستحمام، إلا أنه لا يخفي خوفه الدائم من المستقبل، يقول عثمان " نحن الذين نوفر خدمات جليلة للمستحمين نخاف أن يأتي يوم نجد أنفسنا فيه خارج الحمام، فلا ضمان اجتماعي يمكنه أن يوفر لنا العيش بعد انتهاء مدة صلاحيتنا ولا صحة لنا تمكننا بعد ذلك من الاشتغال في مهنة أخرى، لكن الخوف الكبير هو أن الزبناء أصبحوا في غنى عن خدماتنا، فالزبون الذي سيمنحكم 20 أو 30 درهما يفضل أن يجلب معه صديقا يؤدي ثمن دخوله للحمام مقابل تكييسه وكذا "تكسيله"، ثم إن البعض أصبح يفضل حمامات الصونا التي تتوفر على مدلكين يعملون بأدوات خاصة في "التكسال" وهي عبارة عن مراهم خاصة، أغلبها طبية مستخلصة من الأعشاب، لكن العينة التي تتوجه إلى هناك ميسورة الحال، إذ تؤدي مبالغ مالية مهمة من أجل راحتها.
كخلاصة القول، فإن الكسال الذي يجعل طاقته وصحته في خدمة الزبناء، يبقى دوره أساسيا وهاما في المجتمع المغربي، إذ لولاه لما استطاع المرهق والمتعب والمريض الاستحمام كما ينبغي دون وجوده كالظل في أقبية الحمام وصالاته، وهو يعرض خدماته الجبارة في الوسط الساخن، إلا أن هذا الكائن الذي ينزع الضحك من الزبناء والسخرية من مبتكري النكت، يظل أطهر المخلوقات على وجه البسيطة، لا لشيء سوى أنه في استحمام دائم بعيد عن الرجس والنجاسة، فمزيدا من الاحترام والتقدير.